مجدداً، يضعنا المخرج الإيراني جعفر بناهي أمام تجربة مختلفة من المشاهدة السينمائية، يضيع فيها الحد الفاصل بين الوثائقي والمتخيّل، وبين الذاتي والموضوعي. نجد أنفسنا أمام صنف هجين، يتقن المخرج صناعته بفرادة.
في فيلم "لا يوجد دببة" No Bears، يخاتل بناهي، المشاهد ويتركه أمام جملة من الأسئلة، يتجاوزها لاحقاً مستمتعاً بتلاعبه واستعراضه السردي. قصتا حُب متوازيتان، الأولى في تركيا، حيث يُخرِج جعفر عن بعد فيلماً يعرض محاولات يائسة لزوجين يقرران مغادرة البلاد، وبدء حياة جديدة في أوروبا. الثانية في قرية حدودية بين تركيا وإيران، لجأ إليها المخرج، الممنوع من السفر، ليكون قريباً من طاقمه. في القصتين، محاولة الهرب من قمع السلطات دائمة، الاجتماعية منها والسياسية، وأيضاً من المصير المأساوي الذي يواجه الفرد الإيراني الفارّ داخل إيران أو خارجها.
بفعل كاميرته، يصبح بناهي شاهداً على حكاية عاشقين تحول التقاليد بينهما، فما إن قطع الحبل السري للمولودة، حتى قيدت بحبل العرف الذي يقتضي خطبتها لابن عمها، إلّا أنها تهيم عشقاً بشابٍّ آخر ويخططان معاً للرحيل. يلتقط الزائر الغريب صورة لهما، تتحول على حين غرة إلى جريمة تقلق الهدوء الريفي. العادات هذه تمثل السلطة الاجتماعية في القرية التي تبدو كنموذج مصغر عن البلاد. جريمة بناهي هنا كما جريمته التي لوحق في سبيلها أربعة عشر عاماً، هي إشهار كاميرا.
فكرة الفيلم داخل الفيلم ليست طارئة على السينما الإيرانية، ولا على سينما بناهي نفسه. سبق له أن عمل إلى جانب المخرج الإيراني عباس كيارستامي، في فيلم الأخير "عبر أشجار الزيتون" الصادر عام 1994، إذ استخدم الأسلوب السردي ذاته. لكن ما يميز No Bears هو وجود طبقات متداخلة بكثافة في السرد، يحاول المشاهد حيالها التمييز بين الواقع والخيال.
سرعان ما يثور ممثلو الفيلم على مخرجهم، وينطلقون في الحديث عن همومهم الحياتية، تطلق الممثلة زارا (مينا كافاني) صرخة ضد زيف السينما الروائية، الواقع من وجهة نظرها أكثر دراماتيكية واضطراباً من الخيال، ما يصب في دفاع بناهي عن الخطّ الوثائقي الذي أخلص له. بعد هذه الصرخة، تنفلت الخيوط الدرامية للفيلم، ويختل مفهوم الواقع. يصطدم المشاهد بثلاثة مستويات للحقيقة، واقعه الشخصي، والآخر الذي تخلقه السينما الوثائقية، والثالث الذي يتشكل بعد أن تروي الممثلة معاناتها الخاصة.
يبدي بناهي احتفاءً بخصوصية وبساطة البيئة الريفية المحلية. انطلاقاً من محل إقامته في القرية، يأخذ بالتقاط صور توثق الطقوس القروية، في مشاهد تحمل تحية لمعلمه كيارستامي. يصعد بناهي في مشهد له خصوصيته إلى سطح الغرفة، محاولاً التقاط شبكة اتصال، لتتماهى في وعينا مشاهد محاولات بطل فيلم كيارستامي "ستحملنا الريح" الصادر عام 1999، للاتصال بالعالم الخارجي. يشذّ بناهي عن شاعرية البساطة، وينطلق نحو تعقيدات أخرى تتعلق بهذه البيئة، بما فيها تشبثهم بعاداتهم البالية، وتعلقهم بأوهامهم التي اقتبس منها عنوان فيلمه، إذ يطمئن أحد الشخصيات بناهي أن لا دببة في الطريق الذي سيسلكه نحو قاعة القسم، رغم أن الطريق محفوف بنوعٍ آخر من المخاطر.
على غير عادته، يبتعد بناهي في No Bears عن طهران مرتين، الأولى في القرية الحدودية، والثانية في الفيلم الذي ينجزه في تركيا، وكأنه بعد كل هذه السنوات يجد في الرحيل حلاً، ولا سيما أنه اختار هو الآخر في إبريل/نيسان الماضي، أن يغادر إيران، بعد سنوات من الإقامة الجبرية والتضييق عليه. هذه المرة يواجه بناهي مخاطر الهجرة غير الشرعية، فالدببة الحقيقيون هم مهربو البشر، والخطر الحقيقي هو عبور الحدود.
لطالما لعب النظام الإيراني لعبة القط والفأر مع بناهي، تلك السلطات التي لجأ إلى نقدها في أفلامه بشكلٍ مغرق في المباشرة، حين وعت لخطورة سلاح السينما الذي يشهره في وجهها، مارست ضده أشد أنواع القمع والإقصاء، ليتخذ بعدها من سينماه صيغة لمعارضة واقع الاضطهاد في إيران. بعد اعتقاله عام 2010، قدم خمسة أفلام خلسةً، أشهرها "هذا ليس فيلماً" الصادر عام 2011 و"تاكسي طهران" الصادر عام 2015. نجح المخرج في تهريبهما إلى مهرجانات عالمية، متكئاً في فعله هذا على إرث من تهريب الأفلام في بلاده، بدأ مع المخرج داريوش مهجوري حين هرب فيلمه "البقرة" عام 1969 إلى مهرجان البندقية بعد أن منعه الشاه، ولن يتوقف هذا الفعل المقاوم عند بناهي بالتأكيد.
موضوعة الرحيل، سبقه إليها ابنه بناه بناهي، في فيلمه الطويل الأول Hit the Road الصادر عام 2021. يتتبع خلاله رحلة عائلة نحو الحدود، لوداع ابنها الهارب من الخدمة العسكرية الإلزامية. طريق بناهي الابن لا يخلو من المتاعب، إلا أنه أقل شقاءً من رحلة أبيه. النهاية المأساوية لخطي فيلم No Bears توحي أن مخرجه يرى في قطع الطريق الحدودية نحو الخارج مأساة لا مناص من عبورها، بينما تبقى كاميرا ابنه مع عائلة الشاب خلف الحدود.
لا يصور الفيلم فضاءين مكانيين مختلفين بين تركيا والقرية الإيرانية فحسب، بل يتجاوزه نحو فضاءين زمانيين، على الرغم من تزامن الفيلمين، إلا أن المشاهد يشعر بفجوة حضارية، لولا استخدام بناهي للتقنيات الحديثة التي يستهجنها أهل القرية، لم نكن لنصدق أن القرية النائية التي يسكنها بناهي، تنتمي لنفس الحقبة التي يصور فيها الفيلم الثاني.
نال No Bears جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا السينمائي، تكاثفت حينها مشاعر الحسرة والغربة مع الشعور بالظلم، فتُرك مقعد شاغر لجعفر بناهي كبادرة احتجاجية تطالب بإطلاق سراح المخرج الذي كان خلف القضبان الحقيقية حينها.