C'mon C'mon: الأبوة والطفولة في نيويورك للمرة الأولى

05 ابريل 2022
العمل من بطولة واكين فينيكس (A24)
+ الخط -

 "عندما تفكر في المستقبل، ماذا تتخيل أنه سيكون؟". بهذه العبارة، يفتتح فيلم C'mon C'mon، للمخرج مايك مايلز، سلسلة الأسئلة التي تُوجه إلى مجموعة من الأطفال واليافعين، في محاولة لجمع أكبر عدد ممكن من المقابلات الصحافية الإذاعية في الولايات المتحدة.

يقود جوني (واكين فينيكس)، وهو صحافي ناهز منتصف عمره، مقابلات الراديو، حاملًا ميكروفونه المتنقل أينما حل، لبدء محادثات قصيرة، يستمع فيها إلى رأي الأطفال وتصوراتهم عن الحاضر كما يرونه؛ التغير المناخي، والتربية، والأبوة والأمومة، ومصائرهم والمستقبل، ومدنهم المتغيرة، وعائلاتهم المتناقضة. ومع أنه يعيش قطيعة غير معلنة مع شقيقته فيف (غابي هوفمان)، على أثر وفاة والدتهما منذ أشهر عدة بورم دماغي، إلا أن الصحافي الطموح يجد نفسه مجبرًا في اللحظة الأخيرة على رعاية ابن شقيقته جيسي (وودي نورمان)، خلال رحلته الصحافية الاستثنائية، ريثما تساعد الأم زوجها بول على تخطي الأزمة النفسية التي يمر بها، بالتزامن مع انتقاله إلى أوكلاند لمتابعة عمله قائداً موسيقياً كلاسيكياً.

يوجه جوني أسئلته للأطفال من مختلف الأعمار والجنسيات والخلفيات بسلاسة مُطلقة، بينما يواجه صعوبة بالغة عندما يتعلق الأمر بالإجابة عن أسئلة ابن شقيقته جيسي الموجهة إليه، وهو طفل مختلف عن أقرانه؛ ذكي، وقادر على إحراج البالغين والكشف عن خفاياهم بملاحظاته المحقة واستفساراته الصريحة والعفوية، على غرار: "لماذا لست متزوجًا؟" و"هل لديك مشكلة في التعبير عن مشاعرك؟" وبها، يضرب على الوتر الحساس، ويثير أجوبة تخيف جوني لمجرد التفكير فيها حتى. وفي حين يجاوب جوني على كل أسئلة جيسي، إلا أن هذا الأخير يرفض خوض مقابلة مع خاله، بل يجرّيها مع نفسه خلسة في آخر الفيلم، وكأنه في غنى عن إرشاد البالغين.

ما نفهمه عبر الفيلم أنّ جوني يحب مهنته في الصحافة، وبالأخص مشروعه المغامر هذا؛ فهو لطيف ورقيق مع الأطفال، لا يلح عليهم في أسئلته، ويترك المجال لهم دومًا للانسحاب من مقابلاته. لكنه وحيد إلى أبعد الحدود أيضًا، يعاني حتى اليوم من انفصاله عن حبيبته، وعدم قدرته على تكوين عائلة خاصة به، وهو صاحب الآراء "النظرية" حول مفهوم العائلة؛ إذ لا يبدو أنّ لجوني فهمًا عميقًا وعمليًا عما تعنيه الوحدة البشرية، لذا نراه يستمر في تحريض فيف على إنقاذ نفسها وترك زوجها بول لمعاناته من اضطرابات نفسية ومزاجية. ولا يبدي أي انزعاج عندما تشير فيف، في مرات عدة عبر الفيلم، إلى أنّها لم تتلق محبة من أمها كالتي تشبع بها جوني خلال نشأته، ولا يمانع اختفاءه التام من حياة ابن شقيقته بسبب خلافه معها.

يعيدنا كل ما سبق إلى معضلة ما هو "شخصي" وما هو "عائلي"؛ الخيار الصعب بين ذواتنا المنفردة، وما يجب تقديمه للآخرين الذين نحبهم، أو مدى "انغماسنا" في حياتهم وقراراتهم الشخصية. هل ينصهر اثنان في كيان واحد يدعى العائلة؟ أم أن التجارب الفردية ستستمر في الازدهار والنمو وسط المجموعة؟ هل هو فيلم عن الوحدة؟ عن الأطفال وعالمهم المصغر؟ أم أنه عن عالم الكبار: عن الأمومة، أم ربما عن الأبوة؟ أم هو عن الفن، متمثلًا في الصحافة والمقالات والكتب والقصص، ودوره في فهم كل هذا؟ لا إجابات واضحة في فيلم مايلز الذي يلامس القلوب قبل العقول، ويفتح باب التأويل، تاركًا المشاهد ليستنتج عبره الخاصة.

هنا، في الفيلم، الأبناء نسخة أفضل من آبائهم؛ أمر يتضح مع إجابات الأطفال عن حال العالم اليوم، وعن رؤيتهم للمستقبل، ومع سلوكيات جيسي الصغير الذي يختار المواجهة بدلًا من الهرب، وينزعج بشدة عندما يقول له جوني إنه سينسى هذه الرحلة، ويحرص على سؤاله عما إذا كان سيكبر ليصبح مثل والده بول، في أداء هائل يتجاوز عمر الممثل ذي الأعوام التسعة بأشواط. أما رابطة الأبوة، فهي صداقة تمتد بين البالغين والأطفال، لا صلات رحم ولا روابط بيولوجية أو غريزية، وهي فهم العالم المؤلم وخالص الجمال في آن؛ وإدراك يطاول البالغ والطفل على حد سواء، إذ يزور جيسي نيويورك للمرة الأولى ويعيد التواصل مع خاله بعد انقطاع طويل، ويقترب من فهم عائلة والدته بشكل أفضل. في حين بات جوني، الذي "لن ينسى هذه الرحلة أبدًا"، قادرًا على التعامل مع الحالة المزاجية المتقلبة لجيسي، وتذكيره بأكل خضراواته، وصولًا إلى مجاراته في لعبته الليلية الغريبة، بعدما رفضها أشد الرفض، مستسلمًا في آخر الأمر إلى خيالات الطفل؛ إذ يكون جيسي طفلًا يتيمًا، يزور في الليل فيف وهي أم فقدت أطفالها.

إن مراوغات العقل تلك، وما سبقها من مجاراة جوني لتهيّؤات والدته المصابة بورم في الدماغ، تعرّي لعبة خداع النفس والآخر في العلاقات العاطفية بشتى أشكالها، وتعيد طرح سؤال المحبين الأزلي: هل ندافع عن تخيلات وأوهام من نحب، أم نعيدهم إلى الواقع مع كل فرصة ممكنة، حتى وإن كانت تلك الصحوة غير ضرورية؟ قد يبدو للوهلة الأولى أنّ فيلم مايلز هو عن جوني ورحلته الغريبة مع جيسي، خصوصاً أنّ صوته هو أغلب ما يُسمع عبر مونولوجات عديدة، تتخذ شكل اليوميات الصوتية، لكن الأم البعيدة والغائبة إلا عبر رسائل نصية ومكالمات، والتي يفوقها الذكور عددًا عبر الفيلم (الأب والأخ والابن)، لها الدور الأكبر في تفعيل ميكانيكيات العائلة الصغيرة، وتشريح دور الأمومة بشكل واقعي لا تشوبه المبالغة ولا القدسية، فضلًا عن خيارها الصعب، والذي لولاه لما تمت الرحلة، المتمثل في عدم إحضار ابنها معها إلى أوكلاند لحمايته مما هو أسوأ.

سينما ودراما
التحديثات الحية

فيلم C’mon C’mon، الذي كتبه وأخرجه مايك مايلز، وقد استوحاه من حياته الشخصية مع ابنه، يحمل الكثير من المعاني الواسعة والعميقة عبر طياته. نبدأ مع تعددية الأساليب الدرامية والبصرية؛ مشهدية الأسود والأبيض التي تشحذ بالظلال كل شارع ورصيف، وترسم مدنًا مغايرة لتلك التي عهدناها. ونمر بالموسيقى المذهلة وارتكاز النص بدرجة أساسية على ممثلين أطفال غير محترفين، ما يبث روح الواقعية الوثائقية في الفيلم، إضافة إلى تنوع المواد النصية عبر السيناريو، بمقاطع وشذرات من كتب ومقالات تساعد متفرجي الفيلم على تفكيك طبقاته المتعددة، سواء أكانت قصة عائلة الدببة لأنجيلا هولواي التي تشرح مرض الفصام للأطفال بطريقة خاصة، أو مقال جاكلين روز عن الحب والقسوة. وفيه تُسائل الكاتبة دور الأمومة المقدس في الثقافة الغربية وتصفه بـ"كبش الفداء المطلق لفشلنا السياسي والشخصي"، إلى جانب دور الميكروفون ذاته في تسجيل أصوات المدينة والأطفال، ومكنونات جوني وخواطره اليومية، بوصفه وسيلة تواصل وأداة توثيقية ومنبراً لمن تُسمع آراؤهم عادة، والمكالمات الهاتفية والرسائل النصية التي تظهر على الشاشة، وكأنها عبارات ترجمة، من دون مغالاة في استخدام التقنيات الحديثة، وبلا بهرجة بصرية لا يحتاجها الفيلم.

تتخذ "مجالسة الأطفال" معنى آخر عبر فيلم مايلز، فهي الوعي والفهم العميق والتجربة، هي أيضًا نكء لذكريات الماضي والعائلة، حيث لا مجال للهرب بعد الآن. لا يكمن الحل في تجاهل الماضي، ولا بالتأكيد في الإجابة عن أسئلة المستقبل، كما يقترح جيسي، لأننا لن نتوقعها يومًا. جلّ ما بوسعنا فعله هو المضي قدمًا حتى يتكشف المستقبل أمامنا.

المساهمون