رغم مرور 120 عاماً على رحيل الموسيقي المصري الرائد، محمد عثمان (1855 ــ 1920) في يوم مثل هذا اليوم تحديداً (19 ديسمبر/كانون الأول)، إلا أن ألحان الرجل لا تزال تمثّل ذروة عليا في تاريخ الغناء العربي. ونتحدّث هنا بشكل خاص عن ثروته الضخمة من ألحان الأدوار التي استطاع أن يجعل كل واحد منها آية في القوة والتماسك والتجديد والتطريب والتجانس، لتصبح النموذج الذي يقتدي به كل من جاء بعده من أئمة فن التلحين. فبات معيار نجاحهم أو فشلهم، تقدمهم أو تأخرهم، هو مدى الاقتراب من الذروة العثمانية.
وقد عرف التاريخ الفني العربي ملحنين كثرا اشتهروا بغزارة إنتاجهم، لكن أكثر هؤلاء أنتجوا الجيد والرديء، والنفيس والرخيص. أما الباحث في تراث محمد عثمان وما خلّفه من أدوار وموشحات، يستحيل أن يجد لحناً ضعيفاً، أو عملاً يعتريه النقصان. فإذا أخذنا في عين الاعتبار أن الرجل مات في أربعينيات عمره، تبلغ الدهشة مداها، إذ إننا أمام قريحة فنية استثنائية لا يجود بها الزمان إلا على ندرة وتباعد.
في قالب الدور، مثلت خطة محمد عثمان هيكلاً شديد الصلابة، لم يستطع أحد من ملحني الأدوار بعده الفكاك منه أو تجاوزه: استهلال بمذهب هادئ مترسل، يوضح شخصية المقام، ويُدخل المستمعين في مجاله المغناطيسي، يؤديه المطرب من دون تصرف أو ارتجال. ثم دخول إلى الدور بجمل لحنية تسمح بالتكرار والدوران، وتقسيم أجزاء الجملة، ورد آخرها إلى أولها، وتتيح للمطرب نوعا من الحرية. ثم تأتي الآهات، بلحن يتناوب فيه المطرب الغناء مع المرددين، بصورة منسجمة، حيث يؤدي المغنّي الآهات بلحن معين، فيرددها المذهبجية على نفس اللحن، ثم يكررها بلحن مختلف، فيرددها المذهبجية على لحنها الأول، وبينما يأتي المطرب في كل تكرار بجملة جديدة، يستمر المرددون في أداء اللحن الأول.
بعدها يأتي قسم "الهنك" (كلمة تركية تعني "الترديد المبهج") وهو تبادل إحدى العبارات بين المرددين والمطرب، الذي يؤدي جملة قصيرة بلحن معين، ثم يؤديها المرددون بنفس اللحن، ثم يكررها المطرب بلحن مختلف، فيعيدها المرددون باللحن الأول.. ويمثل قسم الهنك الذروة الطربية للدور، لما يحتويه من جمل رشيقة، وقفلات تسمح للمرددين بالإعادة.. وأخيرا يأتي الختام بجملة قصيرة وهادئة تبتعد عن الصخب الطربي والقفلة "الحراقة".
فرضت هذه الخطة نفسها على المشهد الغنائي الذي كان الدور (حينها) عموده الفقري، فاقتدى بها كل معاصري عثمان، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم مطرب عصره عبده الحامولي. ثم استمر أثرها في كل ملحني الأدوار بعد رحيل عثمان وعبده، وأبرزهم إبراهيم القباني، وداود حسني، وسيد درويش، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب.. ورغم اختلاف أساليب هؤلاء الأعلام في تلحين الدور، وقدرتهم الفائقة على الإبداع والتجديد، ونجاحهم في طبع أدوارهم بطابع شخصيتهم الفنية، إلا أن كل ذلك جرى ضمن الإطار الحديدي الذي وضعه عثمان. حتى دور "عادت ليالي زمان" الذي غنته فيروز من ألحان الأخوين رحباني، لم يخرج عن هذا الإطار العثماني الصارم.
لا جدال في أن ابتكار محمد عثمان للآهات والهنك منح الدور طاقات طربية تتجاوز كثيراً ما كان عليه هذا القالب، في صورته البدائية، التي أخذها الملحنون المصريون عن شيخ الطائفة محمد بن الرحيم، الشهير بالمسلوب.
ومبكرا، أشار الموسيقي المصري الموسوعي كامل الخلعي إلى أن عبقرية عثمان لم تكن في التجديد والاختراع بقدر ما كانت في عظمة الألحان، فقال في كتابه الشهير "الموسيقي الشرقي": "إذا لحن أغنية وأسمعها للناس لأول مرة خرجت متقنة الوضع، رائقة للسمع، يبدو عليها أثر إعنات الفكر، ويُشم منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها، وتوجيه ضروبها، والملائمة بين رِنانها ومعانيها... فأثبت بنتيجة عمله أن لحسن التأليف مكانا بجانب الابتكار، وأن للاجتهاد منزلة قد تعادل منزلة الاختراع، وأن المجتهد قد يكون أفضل من المخترع فيما يهيئه له من مواد الابتداع". فصحيح أن عثمان "اخترع" الآهات والهنك، وصحيح أنه جعل أقسام الدور واضحة جلية، لكنه بعد ذلك بذل غاية الجهد في كل ألحانه، لتعطي هذه الأقسام ألواناً من الطرب، كما اجتهد لتمتين البناء اللحني، بحيث تكون العلاقة بين هذه الأقسام وثيقة، تشدها حبال التآلف، ويضبطها خط سير منطقي.
إحصائياً، لحن محمد عثمان نحو 65 دوراً، أو بالأحرى هذا ما وصل إلينا من ألحانه، مع اختلاف حول نسبة بعض الأدوار إليه.. ومن تلك الروائع الخالدة نتذكر: "أصل الغرام نظرة"، و"بستان جمالك من حسنه"، و"عشنا وشفنا سنين"، و"كادني الهوى وصبحت عليل"، و"لسان الدمع أفصح من بياني"، و"في البعد ياما كنت أنوح"، و"عهد الأخوة نحفظه"، و"قدك أمير الأغصان"، و"فريد المحاسن بان"، و"أعشق الخالص لحبك"، و"قد ما أحبك زعلان منك"، و"على روحي أنا الجاني"... وغيرها كثير من الخوالد المحتفرة في ذاكرة الطرب العربي.
وذكر الباحث الموسيقي السوري الراحل محمود عجان في كتابه "من تراثنا" أن عثمان ترك 21 دوراً من مقام البياتي، و12 من الراست، و7 من الهزام، و6 من النهاوند، و6 من الصبا، و5 من الجهاركاه، و4 من العراق، و2 من الحجاز كار، ودورا واحدا من كل من الشوق أفزا والنوا أثر.. وهذا إنتاج ضخم، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن عثمان مات شاباً في أربعينيات عمره، فيكون ما أنجزه كبيراً جداً إذا ما نسب إلى سنوات حياته الفنية. كما أن الرجل لم يكن مقتصرا على تلحين الأدوار، فله موشحات بديعة، وإن كانت قليلة، ولا تزال الذاكرة العربية تنظر بالإجلال والتقدير إلى "ملا الكاسات وسقاني"، و"اسقني الراح"، و"يا غزالا زان عينيه الكحل"، و"فتنا مطرب الحان".
اتسمت العلاقة بين محمد عثمان ومطرب عصره عبده الحامولي، بشيء من التعقيد، فقد حمل كل من الرجلين للآخر قدراً كبيراً من التقدير والاحترام، لكن ظلت المنافسة بينهما مشتعلة، تلحينياً وغنائياً. صحيح أن صوت عبده كان يتفوق كثيراً على صوت عثمان، لكن هذا لا يعني أن الأخير كان مطرباً اعتيادياً، فقد امتلك عثمان صوتاً جميلا، قادراً على عرض ألحانه الفخمة، لكن لم يطل الأمر حتى أصيب الرجل بمرض أذهب صوته، أو أضعفه كثيراً. ويؤكد كامل الخلعي أن الضعف الذي طرأ على صوت عثمان كان هو الدافع الأكبر، وراء اختراع "الهنك" للوصول إلى أعلى درجة من الإطراب بجمل قصيرة يشترك المذهبجية في أدائها، ولا تسبب إنهاكاً للمطرب.
كان الحامولي شديد الإعجاب بألحان محمد عثمان، وتفننه الأخاذ في التلحين، فلم يستطع أن يقاوم رغبته في غناء تلك الروائع، وهو من هو في ساحة الفن غناء وتلحيناً، وأدواره تشهد له بالعبقرية التلحينية. وبالفعل، أخذ الحامولي في غناء ألحان عثمان، ووجد الأخير في صوت "سي عبده" عوضاً عن ضياع صوته، وتكررت بينهما المناوشات، بسبب إصرار الحامولي أحياناً على التصرف في اللحن.. وساق الناقد الموسيقي الراحل كمال النجمي قصة خلاف بين الرجلين حول أداء دور "عشنا وشفنا"، احتكما فيه إلى الشيخ المسلوب، باعتباره شيخ الطائفة، أو بلغة عصرنا "نقيب الموسيقيين".
والحامولي هو الرجل الذي دان له فن الغناء أربعين سنة، لا ينازعه منازع، وحين يحرص رجل بهذه المكانة على أداء ألحان منافسه، ولا يقدر على مقاومة سحرها وطربها، فليس هذا إلا دليلاً ساطعاً على أنه وجد في هذه الألحان عبقرية غير مستطاعة.