ياس خضر... لم يعد في المحطّة إلا غناء المغنّي

04 سبتمبر 2023
خرج من نطاق الأغنية الشعبية ببساطة ألحانها (يوتيوب)
+ الخط -

تجذّر صوت ياس خضر (1938 ــ 2023) في صميم الألحان الفلكلوريّة والدينيّة والشعبية، فتشكلت بها هويّته، وتأصّلت في حنجرته ألسنة الحزن والعاطفة، فاشتهر وتميّز في الغناء الريفي الشعبي الذي لطالما عكس روح العراق المفعم بالشجن والبساطة، ووثّق تجارب الفلاحين اليومية ومواقفهم الحياتية وارتباطهم بالطبيعة. وهو ما يفسر انتشار أغنية "الهدَل" من (ألحان محمد جواد أموري) أولى أغاني الفنان، وقبولها المباشر، فصوت ياس خضر كان قد تثقف ببساطة الألحان الريفيّة  وانسيابيتها، وبالقدرات والمميزات الصوتية لكل من سبقه من أساطير الغناء الشعبي، مثل حضيري أبو عزيز، وناصر حكيم، وداخل حسن، وعبادي العماري وغيرهم.

طموح خضر وإيمانه بقدراته الصوتية الهائلة، دفعاه إلى الخروج من نطاق الأغنية الشعبية ببساطة ألحانها، والانطلاق لمواكبة الأغنية الحديثة التي كانت قد بدأت تطرق الأبواب حينها، على يد جيل جديد من الشعراء والملحنين الذين سيرسمون ملامح الأغنية العراقيّة الجديدة فيما بعد. هكذا ارتدى خضر الزي المدني المُحايد عن التصنيف الديني أو الاجتماعي، أو الموسيقي، وانطلق  لمسيرته الجديدة عبر الإذاعة، متخذاً الأغنية الطربية الطويله قالباً ومتسعاً يمكّنه من استثمار قدراته العريضة، وأيضًا يقرّبه من القوالب الموجودة في الأغنية العربية من قصائد وأدوار لم تكن من القوالب الدارجة في الموسيقى العراقية (باستثناء قصائد الغناء المقامي العراقي مع تخت الجالغي).

عرف تاريخ الموسيقى العربيّة ثنائيات متجانسة عدة: موسيقي مخضرم، وصوت فريد. لكن العراق لم يعرف ثنائياً شبيهاً إلا مع الموسيقي والملحن طالب القرة غولي، والفنان ياس خضر. حقق القرة غولي حلم خضر بتقديم الأغنية الطربية الطويلة الخالية من الحشو والجديدة على الساحة العراقية، أغنية بمقدمة طويلة، وتنويع إيقاعي وتصوير مقامي، يستفز إمكانات المطرب، بحيث يخرج من مساحة المألوف لرحابة الإبداع، فكانت روائع "البنفسج"، و"إعزاز"، و"كذاب"، و"حن وأنا حن"  وغيرها.

مطلع الستينيات صدر ديوان "للريل وحمد" لمظفر النواب، وفتح أبواب المجاز وكثافة المعنى، فتلقف الشارع العراقي المولع بالشعرهذا الديوان كَنِعمة. حمل ياس خضر هذه القصائد بصوته، مع ألحان طالب القرة غولي، ما زاد من خصوصيّة المطرب العراقي الراحل في سبعينيات القرن الماضي، فأغنية مثل "البنفسج" لم تكن لتمر مرور الكرام، لا على الشارع، ولا على قبضة الرقابة في العراق.

أربع دقائق يفتتحها القرة غولي بحوارية خفيفة بين آلة القانون والكمنجات ومن ثم دخولٌ مرتومٌ للفرقة مع توتر واضح في سرب الكمنجات، ومداخلات للأكورديون بحوارية مُتمّمة وتنتهي المقدمة الموسيقية، المفعمة بحنين يفسّره صوت ياس خضر يغني:

"يا طَعم… يا ليلة من ليل البنفسج
يَمامِش بمامش وأحبك
طبع بقلبي من أطباعك ذهب"

تعامل الملحن مع النص بحذر، بحيث خصص لهذا المقطع الشعري النوتات الأربع الأولى (جنس الأصل) من سلم مقام النهوند لا أكثر، مستنداً إلى إيقاع الوحدة الكبيرة، ومراهناً على قدرة صوت خضر التعبيرية وكفايته بالعتاد القليل لخوض بحر مظفر النَوّاب. من الصعب على أيّ ملحن أن يعالج قصيدة افتتحها كاتبها بـ "طَعم"، فالطعم هو أندر الحواس المستخدمة شعرياً في سياق نوستاليجي، لكن القرة غولي استعان عليها باستناده إلى ياء النداء قبلها، والكفيلة بأن تأخذ المعنى إلى مجرى المونولوج الدرامي، كقالب وافٍ لاحتواء النص.

ينكأ الملحن مقام السيكاه مع دخول مقطع:

"أنه متعلّم عليك هواي
يا سولة سكتّي"

ليفتتح تفاعل على إيقاع المقسوم، ويتنقل على طول النص بين مقامي البياتي والسيكاه إلى أن يختتم التفاعل بالاستقرار على مقام البياتي في نهاية مقطع. ينتقل القرة غولي إلى ذروة الأغنية على إيقاع الهجَع ومقام البيات منحرفاً منه إلى الصبا، مستهلًّا هذه الذروة بارتجال مكتوب لآلة الساكسفون يذكرنا بطريقة بليغ حمدي في التنويع الآلي. يعالج القرة قولي خلال الذروة المقطع:

"شلون أوصفك؟
و إنت كهرب
و آنه دمعة عيني… دمعة ليل ظلمه
شلون ـوصفك ؟
و إنت دفتر… و آني قلمه"

تنتهي الذروة بتكثيف على الصعيد المقامي حيث يدخل الملحن لمقام الراست من باب الحجاز في مقام السوزناك على إيقاع الشفتاتللي: "يلّي ما جاسك فكر بالليل/ ولا جاسك سهر/ يلّي بين حواجبك غفوة نهر".

انفرد خضر على طول الأغنية بإبراز جماليات الغناء العراقي، من ثقل ميانات المقام الأصيل إلى حزن الأطوار، فرشاقة اللحن الشعبي، كان خليط نكهة ياس خضر الذي عبقت به موسيقى القرة غولي وليلة البنفسج للنوّاب.

اشتعل العراق بالأغنية، وانكبّت الآراء مجتهدًة في تأويل نص مظفر الذي أحياه القرة غولي وخضر بجسد موسيقي، إلى أن اعتقلت الأغنية أخيرًا.

بُنِي لحن البنفسج على الطريقة المصريّة في علاج النصوص الطويلة، وهي توازي وتفوق الكثير من أعمال الملحن بليغ حمدي من حيث القيمة والغنى، فما الذي وقف حائلًاً في وجه أن ينال ياس خضر حظوة عبد الحليم حافظ، على الرغم من تفوقه الواضح بالقدرات والمساحة الصوتيّة، والأصالة، سوى النّرجسية التي لا تكفّ عن محاولة اختصار الحدث الفني العربي بدول وثقافة محددة. وما معنى أن يقع فنان مثل ياس خضر في شرك اضطهاد القنوات التلفزيونيّة وشركات الإنتاج، إلا غياب المؤسسات الحامية للحقوق الفنيّة وهذا دليل واضح على وسط فاسد خالٍ من أي قيمة.

رحل طالب القرة غولي عام 2013، واليوم فيما لم نخلص بعد من ترتيب فوضى غياب مظفر النوّاب منذ عام تقريباً، رحل ياس خضر بعد أن أعدّ لنا مؤونةَ عمرٍ من الأُلفة والمواساة تخفّف ثقل الليالي.

المساهمون