هوية بيروت تتلاشى... لم يبق من منازلها التراثية سوى 200

06 ديسمبر 2021
انفجار مرفأ بيروت دمر الكثير من البيوت التراثية (فرانس برس)
+ الخط -

بالنسبة إلى زياد دندن، هناك ما يكفي من التشويه الحاصل لتراث بيروت المعماري، ليجعله يبكي. فالمدينة التي لطالما وصفت بأنها لؤلؤة الشرق المشبهة بباريس، والتي اختلطت هندسة بيوتها بالعثماني والأوروبي، فقدت بريقها المعماري الفريد بسبب الجشع والإهمال.

صارت معالم العاصمة اللبنانية ومبانيها وكتلها الإسمنتية العملاقة والمتجاورة، دليلاً واضحاً على المعادلة الطاغية منذ نهاية الحرب الأهلية قبل 30 عاماً: إن الأولوية في غالبية الأحيان تعطى للأرض وثمنها، مهما كانت الأهمية التراثية لما هو فوقها من بناء.

الآن، يخشى خبراء ونشطاء أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب لبنان منذ 2020، ستترك حتماً تأثيرات إضافية مؤذية على ما تبقى من التراث المعماري لبيروت.

وتَتابع على المدينة الخراب الذي ألحقته الحرب، ثم سياسات الإعمار التي انتقدها كثيرون، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت عام 2020 الذي ألحق - بحسب وزير الثقافة السابق عباس مرتضى- أضراراً بـ601 مبنى تراثي وقديم. والآن، يتخوف كثيرون من حالة التراخي الظاهرة والتي قد تسمح بتلاشي ما تبقى من بيوت تراثية عاجلاً أو آجلاً.

وبناء على إحصائية المديرية العامة للآثار، التابعة لوزارة الثقافة، بلغ عدد المباني التراثية في منطقة بيروت عند انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، 1061 مبنى، ولم يتبق منها الآن سوى نحو 200 مبنى، وهو عدد أكده "مختبر المدن بيروت"، وهو مركز بحثي وتوثيقي تابع للجامعة الأميركية، يرصد التحولات في البيئتين الطبيعية والعمرانية، وخلص في إحصاء له عام 2018 إلى تبقي 200 منزل تراثي فقط في العاصمة.

حجب صخرة الروشة

يدرك زياد دندن (60 سنة) أن شيئاً غير عادي أصاب مدينته التي يحفظ الكثير من تفاصيل أحيائها وشوارعها، بالإضافة إلى بيوتها التراثية التي يحكي عنها بحسرة كبيرة، مثلما يتحدث عن صخرة الروشة، أحد أبرز رموز هوية بيروت، والتي كان بإمكان العابرين الاستمتاع بمشهدها أثناء مرورهم على الكورنيش البحري حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، لكن "حيتان المال استولوا بوسيلة أو بأخرى على مساحات كبيرة من الواجهة البحرية المطلة على الصخرة وحجبوا الرؤية عن أهل المدينة" كما يقول.

تخريب عمراني

وجد دندن ما يكفي من الدوافع ليكون في مكانه كناشط في جمعية "تراثنا بيروت"، المعروفة باسم "تراث بيروت" وأصبح منسقاً للإعلام ونائباً للرئيس، فقد "شعرنا بأن هوية العاصمة تتغير".

يقول رئيس الجمعية الدكتور سهيل منيمنة إن تحركهم بدأ مبادرة فردية في العام 2016، ثم انضم إليها كثيرون من مؤرخين وباحثين ومختصين بتاريخ بيروت، وتحولت إلى جمعية مسجلة عام 2019، حيث جمعهم الى جانب قضايا الثقافة والفنون الشعبية والملابس والطعام، القلق حول التخريب العمراني بسبب ما لحق بالمدينة من تغيير كبير في مظهرها العام وهويتها.

يعدد الدكتور منيمنة المواصفات التي وضعتها مديرية الآثار منذ العام 1943 للبيوت التراثية والتي منها القناطر، والقرميد على السطح والقمريات الدائرية للسماح بدخول أشعة الشمس وإمكانية وجود بركة مائية صغيرة في ساحة المنزل أو داخله، مشيراً إلى أن لها قوانين لحمايتها منذ ذلك الوقت، "لكن هذه القوانين لم تكن واضحة وفيها ثغرات كبيرة استفاد منها المقاولون وأصحاب رأس المال".

مبنى تراثي غير مأهول في منطقة القنطاري مهدّد بالهدم (Getty)

هناك- كما يقول الخبراء- ما يميز بين البيوت التراثية نفسها، ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام، بحسب عمرها الزمني وبحسب طراز البناء. فهناك البيوت التي كانت مقامة داخل سور بيروت القديم والتي لم يتبق منها، ولا من السور، أثر يذكر. وهناك البيوت التي أقيمت خلال الامتداد الجغرافي للمدينة خارج السور القديم بين عامي 1860 و1880 ولا يزال بعضها قائماً إلى الآن في حي زقاق البلاط البيروتي، ومنها "قصر حنينة" و"قصر زيادة" والمركز الألماني للدراسات الشرقية.

بالإضافة إلى ذلك، هناك البيوت التي شيدت في بيروت في الفترة ما بين عامي 1890 و1930. مثل مبنى "السراي الحكومي"، المقر الرسمي للحكومة، و"قصر تقي الدين الصلح" في حي القنطاري، و"قصر بشارة الخوري" في حي كركول الدروز.

مستثمرون وسماسرة

تلاشي البيوت التراثية يعني بالنسبة إلى دندن "أنك تدخل إلى مدينة لم تعد لها هوية ولا تاريخ. عمارات إسمنتية وزجاج وألومنيوم. هل ما زالت ترى زقاق البلاط والحمرا مثلما كان لها رونقها؟ إنها تبعث على البكاء".

وقال دندن: "نخشى أن تؤثر الأزمة الاقتصادية على استمرارية البيوت التراثية غير المأهولة نتيجة إغراءات المستثمرين والسماسرة للتخلص منها من أجل إقامة مشاريع عمرانية حديثة ضخمة، فيما نتخوف من تراجع قدرة الدولة أو رغبتها في تشديد ضبط المخالفات أو محاولات التحايل على القوانين".

المتحدث باسم "جمعية حماية التراث اللبناني" رجا نجيم ليس مطمئناً أيضاً، ويقول: "لا نعلم ماذا يخبئ لنا المستقبل. أزمة البلد مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها الفوضى التي يمكن أن تدمر ما تبقى من تراث"، وبالتالي لا يكون عندها بإمكان القوانين الموضوعة أن تحمي التراث المعماري ولا البيوت المصنفة محمية من جانب وزارة الثقافة إلى أبد الآبدين.

صباح الخير يا بيروت من مار مخايل، المراحل الأخيرة لترميم هذا المبنى التراثي الجميل. عدسة الصديق الأستاذ ميشال حداد. Good morning Beirut From Mar Mikhael sector.. still renovating. Photo: Michael Haddad.

تم النشر بواسطة ‏تراث بيروت Beirut Heritage‏ في الثلاثاء، ٣٠ نوفمبر ٢٠٢١

يتحسر نجيم وهو يقول إنه رغم العديد من القضايا والمعارك التي خاضها طوال 15 سنة "لم ننقذ أي بيت لأن عقلية الدولة والمتعهدين والمالكين والمستأجرين، كلها تنحو باتجاه الإعمار وليس نحو المحافظة على التراث"، عملاً بمبدأ الملكية المقدس في النظام الاقتصادي، فلا يعود ممكناً إجبار صاحب البيت مثلاً على الاحتفاظ به ودفع ضرائبه ورسوم البلدية وكلفة ترميمه، من دون أن تقدم الدولة دعمها وتسهيلاتها له، إذا كان عاجزاً عن ذلك.

في هذه الأثناء، ينتصب البيت الزهري، المعروف عند البيروتيين باسم "قصر الداعوق"، المشيد منذ أكثر من 100 سنة، على تلة متميزة مطلة على البحر، تتآكله عوامل الزمن والإهمال، برغم انتقال ملكيته إلى شخص مقتدر مالياً. "هذا حرام" يقول نجيم. أما دندن فيتساءل متألماً من جهته، هل هو "متروك عمداً للإهمال لعله يتداعى وحده؟!".

(أسوشييتد برس)

المساهمون