هل هذه التظاهرات السينمائية مجرّد فعل ثانوي؟

07 نوفمبر 2023
فرق إنقاذ بعد قصف في خان يونس (محمد الزعنون/ فرانس برس)
+ الخط -

ظاهرياً، يبدو تأجيل أو إلغاء مهرجانات سينمائية عربية دوراتها المقبلة فعلاً تضامنياً، لا يخلو من صيغة احتجاج على العدوان الإسرائيلي الجديد على الشعب الفلسطيني. لكنّ الناظر إلى عمق الفعل، يُحيله إلى أسئلةٍ، تتعلّق بالموقف من المهرجانات نفسها، ومن فهم الجهات المسؤولة عنها لطبيعتها ووظيفتها، ولكون تنظيمها وإقامتها يمثّلان مُمارسةً فنية، لها صلة مباشرة بالسينما، وبالثقافة عموماً، ففهم العلاقة بينها وبين رعاتها يستحق البحث والنقاش.
من هذا المنظور، لا بأس من التذكير بأنّ أكثرية المهرجانات العربية تُنظّمها وتُديرها مؤسّسات رسمية حكومية، وقليلٌ منها، كـ"الجونة"، تديره مؤسّسة اقتصادية خاصة، لا صلة لها بالحكومة المصرية. بالتالي، فإن قرار أصحابها تأجيل الدورة الجديدة لمهرجانهم، أو إلغاءها نهائياً، يُعبّر عن موقفهم وفهمهم طبيعة المشروع الثقافي الذي يديرونه، والذي يتقارب -في مفارقة لافتة للانتباه- مع موقف حكومات عربية، أوعزت لوزاراتها المُشرفة على المهرجانات التابعة لها، كـ"القاهرة" المصري و"قرطاج" التونسي، تأجيل دوراتها، المفضي بدوره إلى إلغاءٍ، على الأرجح.
القرارات الخاصة والرسمية تتّفق في ما بينها، ضمناً، على أنّ المهرجانات فعل ثانوي، يُمكن تجاوزه لصالح مكسبٍ سياسي دعائي، آنيّ ومؤقّت. أبعد من هذا، تكشف نظرة دونية للفن ودوره. التأجيل والإلغاء يفضحان الموقف السياسي العربي، الرسمي والخاص، من الثقافة، والتعامل مع مفرداتها، وأنساق التعبير عنها، كشأن ثانوي يُمكن تقليصه، أو إلغاؤه. يظهر هذا جلياً في الأزمات الاقتصادية، والأحداث الدراماتيكية، كالإبادة الجماعية الحاصلة في غزّة. بدلاً من الفعل السياسي المؤثّر لوقفها، وردع المُتسبّب بها، تختار الحكومات تقديم الثقافة قرباناً لها. يدفعون بها "شرّ" مسؤولية المُشاركة الحقيقية فيها.
لتزامن مذبحة غزّة مع توقيتات سابقة لمهرجانات سينمائية عربية، تُقرّر التضحية بها، كما ضحّت بها سابقاً في مناسبات مختلفة. هذا يدعو إلى مُساءلة تلك الجهات، وهذا حاصل على المستوى الفردي، في مواقف مثقّفين وفنانين وسينمائيين ونقّاد، عن المكاسب الحقيقية المرجوّة من التأجيل والإلغاء. والسؤال الملازم لها: مَنْ المستفيد منها، في نهاية المطاف؟
في قراءة نقدية للتاريخ السياسي الحديث للمنطقة، ولصراعاتها، يتبيّن بوضوح التناسب الطردي بين مستوى نهوض مجتمعاتها في مراحل تاريخية معيّنة، ومستوى ازدهار الثقافة، ونشر الوعي بين سكّانها. وعكسه، يُلاحَظ تراجع وهشاشة يُصيبان البنى المجتمعية والسياسية العربية. وهذا ربما يكون أحد أكثر أسباب ضعف مساهمتها الحضارية، التي تُعدّ المهرجانات السينمائية، كالسينما نفسها، إحدى وسائل التفاعل والمشاركة فيها. هذا يُفسّر لماذا استقتلت مهرجانات سينمائية كبيرة، أوروبية وغربية خاصة، في فترة كورونا، للاستمرار في تنظيم دوراتها، ولو افتراضياً (أون لاين). كان يسهل على منظّميها، والجهات الراعية لها، التذرّع بالوباء لإيقافها. هذا لم يحصل، لأنّ الموقف من المهرجانات والسينما عندهم لا ينفصل عن الموقف من الثقافة والفعل الإبداعي، وبهما يُمكن قياس تطوّر مجتمعاتهم، وتحصينها من كل فيروس يُريد تهشيم قيمها الثقافية والحضارية.
يجرّنا هذا التوصيف إلى مُراجعة واقع المهرجانات العربية نقدياً، وبدء نقاش مع المعنيّين بشأنها. آليات تأسيسها إحدى أكثر المشاكل التي تواجهها، فإقامة المهرجانات العربية وإنهاؤها يتقرّران، عملياً، بقرارات فوقية، تجلي هشاشة بنيتها، وبكونها بعيدة كلّ البعد عن مفهوم "المؤسساتية". لهذا، يظلّ مصيرها رهن قرارات خارجة عن إرادة المشرفين عليها. في توقيف مهرجاني "دبي" و"أبوظبي"، وقبلهما "مهرجان الخليج" نهائياً، من دون تبيان الأسباب الموجبة للتوقيف والإلغاء، مثلٌ على هشاشة بناء المهرجانات العربية، رغم ما حقّقته من نجاحات لا يُمكن تجاهلها. تلك المفارقة ليست بعيدة عن إلغاء الدورة السابقة لـ"مهرجان الجونة"، وأيضاً النقاشات المتكرّرة عن مواعيد تنظيم دورات "أيام قرطاج السينمائية" (كلّ سنتين، أم كلّ سنة؟).

في هذه الحالة، لا غرابة أنْ تتعامل المهرجانات العالمية، والأطر المُنظّمة لها، على أنّها مهرجانات مرتبكة، من دون مرجعيات مهنية، ولا تقاليد عمل يُمكن التعويل على قوّة حصانتها. لتغيير تلك النظرة، يتطلّب، قبل كلّ شيءٍ، تحريرها من سلطة المؤسّس/المتحكّم، وانتزاع إداراتها المساحة المطلوبة لها لتمارس فيها استقلاليتها وحرية اختياراتها الفنية. ربما يبدو ذلك مستحيلاً وخيالياً، في ظلّ واقع سلطوي مُهيمن، لا يقبل التنازل أبداً عن أبسط أشكال تحكّمه. لكنْ، هناك -في التجارب القليلة- ما يشير إلى استثناءات مُلهمة، مُتأتية من قوّة الشخصيات التي تتولّى الإشراف عليها. ربما يُفيد هنا التذكير بالتغيير الذي أحدثه الناقد سمير فريد في "مهرجان القاهرة"، عند تولّيه مسؤولية إحدى دوراته.
لن يخدم التاريخ الطويل لبعضها، ولا يمنع من تراجع مستوياتها، إذا ظلّ المشرفون الجدد عليها يقبلون تسييسها، والتوافق الاختياري أو الإلزامي مع المؤسّسات الرسمية، التي ترسم سياساتها، وتقرّر مفرداتها. هذا يحصل فقط عندما تتحوّل المهرجانات العربية، حقاً، إلى مؤسّسات ثقافية، مدعومة شعبياً، ومُنفتحة على كلّ الجهات المعنية بتقوية مراكزها، مالياً ومعنوياً. تسييس المهرجانات قائم قبل مذبحة غزّة، لأنّ السياسيين يجدون فيها دائماً خاصرة رخوة، يُمكن لهم التدخّل من خلالها في شؤونها ورسم سياساتها. لن ينفع الكلام عن الاستقلالية من دون إبعاد شبح الرقابة الذاتية عن إداراتها، وأيضاً عن النقّاد والصحافيين الذين يكرّسون، أحياناً كثيرة، خطاً "مُتشدّداً" إزاء كلّ خطوة بسيطة، تنفتح فيها المهرجانات على أفكار وشخصيات مثيرة للجدل، أو حين تُفكّر بعرض أعمال سينمائية مُحمّلة بموقف نقدي شجاع.
مناقشة الموقف النقدي السينمائي العربي تتوازى في أهميتها مع مناقشة سبل تطوير البنى الداخلية للمهرجانات، لأنّ المشتغلين في حقل الكتابة النقدية قادرون، فعلياً، على تأدية دور إيجابي في التشجيع على خوض مغامرة الانفتاح على الآخر، وعرض تجاربه، وترك الحكم عليها للجمهور المعنيّ بمُشاهدتها والتفاعل معها، مع احتفاظ كلّ واحد منهم بحقّه في قراءة المُنجز الإبداعي وفق رؤيته وثقافته.
يوصلنا هذا المسار إلى مُعارضة فكرة "الإقطاعيات" المتوارَثة، التي تُكرّسها بعض المهرجانات العربية العريقة، وتعمل على نقلها إلى غيرها. لن يقبل العصر بتكريس نظرية الأسبقية والأولوية، كمقياس للتفوّق؛ ولن يتسامح مع المُصرّين على اتّخاذها نهجاً ثابتاً لهم في العمل. فمن كان طليعياً بالأمس، ليس بالضرورة أنْ يبقى كما هو اليوم. والمهرجانات، كالحياة نفسها، تتكرّس قوّتها وحضورها بمقدار مواكبتها مُتغيّرات العصر، وملاءمة نفسها مع الجديد الحاصل في عالم السينما وإدارة المهرجانات في كلّ مكان.

هل توصلنا تلك النظرة التجديدية إلى النقطة الحرجة، التي تلتزم فيها كلّ المهرجانات العربية التنسيق في ما بينها، والاتّفاق على الحدّ الأدنى من التعاون، كي لا تتحوّل المنافسة في ما بينها إلى حروبٍ تضرّ السينما أكثر مما تنفعها؟

المساهمون