إقامة المهرجانات للتفكّر في حالة العالم

07 نوفمبر 2023
النضال ضد الاحتلال ثقافي أيضاً (يوسف الزعنون/ فرانس برس)
+ الخط -

في الحرب العالمية الثانية، طالب نوابٌ في مجلس العموم في المملكة المتّحدة، بإلغاء كلّ الإعانات المُقدّمة للفن والثقافة، للمساهمة في المجهود الحربي، وتعزيز الترسانة العسكرية المُستخدمة لمحاربة الرايخ الثالث، فأجابهم ونستون تشرشل بسؤالٍ، ظلّ راسخاً في الذاكرة: "إذن، ما الذي نقاتل من أجله؟". في تصوّر رئيس الوزراء، الذي قاد المملكة المتّحدة في قهر جبروت النازية، "بالدم والدموع والعرق"، تجسّد الثقافة والفنون أجمل ما في الشعوب، وقوام حضارتها، والوجه المشرق الذي يسعى أعداؤها إلى طمسه.
تضطلع هذه الواقعة بدلالة خاصة، في سياق العدوان الهمجي الذي يشنّه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة والضفة الغربية. هناك نقاش دائر بين مناصري إلغاء المهرجانات السينمائية في الدول العربية، أو تأجيلها، ومن يدعون إلى إقامتها في موعدها، مع إلغاء مظاهر الاحتفال والسجادة الحمراء. هذه إشكالية عصيبة ومُعقّدة، ولا شكّ أنّ كلّ وجهة نظر تحتفظ بجانب من الصواب والحقيقة.
كان نضال العرب ضد الاحتلال إسرائيلي، ولا يزال، ثقافياً في أحد جوانبه، كما هو عسكري في عدة أحيان. حروب دفاع ناعمة، لكنّها طاحنة، شُنَّت بروايات وأفلام ومسرحيات وأغان، أنجزها فنانون فلسطينيون وعربٌ، وآخرون من جنسيات عدّة. أعمال جسّدت أبعاد المأساة الفلسطينية منذ عام 1948، وذكّرت بأحقية الفلسطينيين في أرضهم، وعودة المهجّرين. هذا كلّه في مواجهة آلة البروباغندا التي تُمجّد الرواية الصهيونية بطمس الوقائع، وتجزئة الحقائق. كلّ شيءٍ يمرّ عبر الذاكرة، ومتى استطاعت آلة إعلامية طمس ذاكرة شعب ما، تسهل على الجيوش مهمّة قمعه وسحقه. ولعلّ السجالات الإلكترونية الدائرة اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي، بين من ينادون بوضع الصراع في سياقه التاريخي، بغية فهم أبعاده المُعقّدة، والحيف الكبير الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، وفضح مزوّري الحقائق الذين يريدون إقناعنا بأنّ كلّ شيءٍ بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ليست في العمق سوى نسخة حديثة من المعركة الأزلية بين دعاة الذاكرة وتجّار النسيان.
لا شيء يوازي الفنّ في قدرته على استجلاء الحقيقة، وإحياء الذاكرة المنسية أو المطموسة. مهما بلغت نزاهة البرامج التلفزيونية، ودقّتها في توخّي الحقيقة، بعيداً عن الصُور الجاهزة والتخندق الأيديولوجي، فإنّ "التلفزيون يصنع نسياناً، بينما تنتج السينما ذكريات"، كما يقول جان ـ لوك غودار. ورُبّ فيلمٍ واحد، "هنا وهناك" (1971) لآن ماري مييفيل وغودار نفسه مثلاً، يستدعي رؤية عميقة وإنسانية لنضال الشعب الفلسطيني، أفضل من مئات الساعات من صخب الجدل السطحي على شبكات التواصل الاجتماعي، والنقاش المتشنّج في بلاتوهات التلفزيونات، حيث تسود السيناريوهات، المُعدّة سلفاً، النّوايا 
وبما أن لا أفلام من دون مهرجانات سينمائية، تمثّل مجالها الحيوي الذي تلتقي فيه رؤى الفنانين، فتتفاعل عبر التنافس أو النقاش النقدي والمهني، قبل أنْ تجد طريقها عبر الإعلام إلى المُشاهد، فتهيّئه لاستقبالها واستشفاف أبعادها الشكلية والموضوعية عند عرضها في الصالات السينمائية، فإنّ استمرارية العمل السينمائي رهنٌ بانتظامِ المهرجانات وانطلاقها في مواعيدها المحدّدة. أنْ ينعقد مهرجان دولي في دولة عربية، وتمنح برامجه مكاناً لتداول القضية الفلسطينية، بعرض أفلام وتنظيم حلقات نقاش، أو حتّى لفتات مُساندة عبر الكلمات الملقاة، أو إشهار لافتات ورموز أمام عدسات الكاميرا، كلّها أفضل من جوّ الكآبة والإحباط الذي تُخلّفه إعلانات الإلغاء والتأجيل.
تنظيم مهرجان يشبه قيادة درّاجة هوائية، لا تُسيّر أو تُعدّل وجهتها سوى بالحركة المستمرّة، وما أن يتوقف أو يرتبك إيقاعها حتى يختل توازنها. يصبح أيّ حديث عن إلغاء دورة أو أكثر من مهرجان ما، بنية الإصلاح والتجديد، مقامرة حقيقية بمستقبله، وتهديداً للمكتسبات التي راكمها. هناك عقد غير مكتوب بين المهرجان وشركائه، يُعدّ الانتظام والتزام الخطّ التحريري من أهم بنوده. وما أنْ يختلّ بند الانتظام، أو يحيد المهرجان عن خطّه، حتّى تهتزّ الثقة التي يضعها الشركاء فيه، وقد تلزمه سنوات ليكتسبها من جديد.

هناك مثلٌ في المهرجانات الدولية، كمهرجان "كانّ"، الذي لم يُلغَ منذ تعثّر انطلاقته بسبب الحرب العالمية الثانية سوى مرّتين: قبل ثلاث سنوات بسبب تفشي فيروس كورونا ، وفي مايو/ أيار 1968 حين توقّف قسراً بضغط من السينمائيين الحاضرين، الذين انضمّوا إلى الطلبة والعمال للمُطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. حتّى عندما اندلعت حروبٌ وأزمات خانقة في قلب أوروبا، كحروب يوغوسلافيا في مطلع التسعينيات الماضية، والحرب الروسية على أوكرانيا العام الماضي، نشبت نقاشات حامية في كواليسه، ونُشرت مقالات نارية في الصحف تنتقد هذا التوجّه أو ذاك في المواقف المُعلنة من المنظّمين والمشاركين إزاء الحرب، لكنّه لم يتوقّف.
لا مكان أفضل من شاشة سينما للتفكّر في حالة العالم. لا شيء يضاهي المهرجانات حين تحقّق لمرتاديها أنْ يجسّوا، على امتداد أسبوعين، نبض ما يمور في أقطار من شتى أنحاء المعمورة، بلغات وثقافات وأعراق متنوّعة، مُجسَّداً بعيون ألمع المبدعين، فتتقاطع الرؤى، وتنصهر وجهات النظر، وتنتفي الحدود، وتُلغى الفوارق، لتنجلي الإنسانية في حقيقتها العارية، بوجهيها المشرق والمظلم، ومشتركاتها وتناقضاتها، وآمالها وآلامها.

المساهمون