على مدار أكثر من نصف ساعة، قدمّت فنّانات فلسطينيّات شابّات عرضاً راقصاً حرّاً، على وقع موسيقى حيّة، في مزيج ارتجالي، حمل عنوان "هدوء مركّب"، ليسلّطن الضوء على الحرب بمفهومها الواسع.
وما بين حب وأكثر من حرب، قدمت الراقصات حلا سالم ورند طه وريما ناصر الدين وشهد جبّارين وعدن عزّام وليال مزاوي رفقة معن الغول وكنعان الغول (موسيقى)، لوحات عكست قدراتهن كمبدعات استطعن المزج بين أكثر من نمط راقص من جهة، كالمعاصر، والباليه، وشيء من وحي الدبكة، وحركات الرقص الشرقي، من دون إهمال الأكروبات، كما تمكنّ باقتدار من التعبير عمّا يعتمل في دواخلهن.
ومن دون أن ينطقن، كانت أجسادهن تحكي الكثير، في إطار جدلية الحبّ كفعل مضاد للحرب، كما هو حال الفن، فكانت الصورة البانورامية الشاملة للعرض تتضمن لوحات منفردة، وأخرى ثنائية، وأحياناً ثلاثية أو رباعية في ذات المشهدية، أو في مشهديات مختلفة ومنفصلة أو تتلامس حدّ التلاقي، ولكن من دون صدام، وكأنهن يتمردن ليس فقط على الحرب بمفهوهما العام، بل على الحروب التي يعايشنها يوميّاً كإناث في مجتمعات ذكورية، أو الحروب الداخلية التي تسكنهن، متجاوزات الجغرافيا والزمن، ليمددن جسراً نحو حكايات ذات طابع إنساني في زمن تشتعل فيه الحروب بأشكالها المتعددة، فتحرق الأرض وتقضم حيوات البشر وذاكراتهم ودواخلهم.
وتمردت أجساد الراقصات الست على أنفسها، فأبدعن بشكل فيه شيء من الارتجال، ولكن بوعي مسبق لا شك، منذ البداية حين افترشت إحداهن الأرض، قبل أن تزحف باتجاه النجاة المفترضة، جهة تلك التي تبدو مرتعدة ذات اليمين، أو الأخرى ذات اليسار، أو باتجاه البعيدتين اللتين تفترش واحدة منهما حضن الأخرى، قبل أن تقتحم سادستهن المشهد بسلاسة، هي التي بدت وكأنها من ضحايا الحرب الجدد، أو الشاهدة العليا على معاناتهن، ومساعيهن لمقاومة التردي بالحبّ أو بالمزيد منه.
والعرض، حسب القائمين عليه، يقوم على فكرة خلق علاقة وطيدة ما بين الرقص الحرّ والموسيقى الحيّة من دون تعقيدات، لجهة التعبير عن فوضى الحرب وتبعاتها، في مقابل الحبّ الذي يخلق حالة من التوازن والهدوء، عبر لوحات تعبيرية تعكس "حالات شعورية نعيشها أفراداً وجماعات رغماً عنّا، ضمن واقع مليء بالصراعات والتحدّيات التي تبلورنا حاضراً ومستقبلاً"، لكونها تتغلغل في مواضينا ويوميّاتنا المُعاشة وهواجس القادم.
الراقصات الفلسطينيات استطعن تطويع أشكال الرقص المعاصر الذي اتكأن عليه في هدوئهن المركّب، لخدمة فكرة الانتصار للأمل، خاصة في بلد يعاني من الاحتلال. قدمن إبداعاً جديداً ومبتكراً، كان بمثابة مرآة لحاضرنا، وأقرب إلى بيان اجتماعي كتبنه بأجسادهن في قاعة مركز خليل السكاكيني في مدينة رام الله، أخيراً، ضمن برنامج الشراكات والاستضافات للمركز وبالشراكة والتعاون مع "استوديو كوليكتف"، الساعي لتعميم "الرقص كأداة تعبير محورية في المجتمع الفلسطيني".
وما بين الحواجز والعراقيل التي تعتري الرقص بأشكاله، وخاصة المعاصر لا التراثي منه، ليأخذ مكانته المستحقة كفن قادر على التعبير عمّا يعتمل في نفوس صانعيه، بل وعن القضايا الجمعية حضارياً، وثقافياً، وحتى اجتماعياً واقتصادياً وسياسيّاً، وما بين الجدران التي تحيط بالنساء على المستوى العالمي، وبشكل أكثر حدّة في ما يعرف بدول العالم الثالث، قررت الراقصات الستّ خلع أي عباءات قد تقيّد عقولهن ومشاعرهن قبل أجسادهن، محمّلات بالكثير من الأحاسيس والآمال لجهة السيطرة على حيواتهن عقلاً وروحاً.
تبقى الإشارة إلى أن الرقص المعاصر والنسوية تجمعهما عناصر مشتركة عدّة، فكلاهما ولد من رحم التمرّد، وكلاهما يعتبر حديثاً نسبيّاً، بل إنهما أطلّا برأسهما علانية في وقت قد يكون متزامناً بشكل أو بآخر، علاوة على كونهما شكلا تحديّات للسلطة بمفهومها الشامل، ورفضاً للاستسلام لوقائع الأمور باعتبارها قدراً لا انفكاك منه أو عنه، فحمل الرقص المعاصر قلوب النساء ومشاعرهن مقدماً عروضاً مبهرة ومؤثرة في مختلف قارات العالم، كان "هدوء مُركّب" الفلسطيني واحداً منهم.