"منطقة الاهتمام": مقاربة سينمائية تجعل أوشفيتز "جنة عدن"

14 يونيو 2023
"منطقة الاهتمام": كلّ هذا الهدوء والجريمة قريبة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في عقدين، تقريباً، أنجز البريطاني جوناثان غلايزر (1965) 4 أفلام روائية طويلة فقط. رغم قلّتها، أثبتت أنّ الكَمّ ليس معياراً. مخرجون كثيرون يكرّرون أنفسهم وأساليبهم ومواضيعهم في كلّ فيلم، تقريباً. غلايزر ليس هكذا، إذْ يحرص، في أفلامه العابرة للأنواع السينمائية، على أنْ يكون جديده مُغايراً تماماً لما سبقه، ويضيف جديداً إلى السينما أيضاً، موضوعاً أو أسلوباً أو فنّيات، أو كلّها معاً. حرصه الزائد يبدو سبباً رئيسياً لقلّة أفلامه.

في جديده، "منطقة الاهتمام" (2023)، أول روائي طويل له منذ 10 أعوام، هناك مُغاير وجديد أيضاً، كطرح ومعالجة وفنّيات وجماليات سينمائية، إذْ له منطقة مهمّة خاصة به، ولا يُقاربه أيّ فيلم، روائي ووثائقي، صنع من قبل عن معسكر أوشفيتز الرهيب. أحد أشكال المُغايرة والابتكار تجنّبه التام الدخول إلى المعسكر، ولو مرة واحدة. قصديّته الجريئة هذه تهدف، كالفيلم برمّته، إلى كسر التوقّعات التقليدية المتعلّقة بكلّ شيء، رغم عادية غالبية الأشياء فيه، وتقليديتها وروتينها.

المُثير في "منطقة الاهتمام"، الفائز بـ"الجائزة الكبرى" وجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد ـ فيبريسي" في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، أنّ أحداثه البسيطة لا تتناول القتل والتعذيب والتجويع والإبادة الجماعية، وأنّ شخصياته القليلة لا تتحدّث عن هذا أبداً. أوشفيتز، بالنسبة إليها، مكان مجاور، فيه يهود فقط، تتناهى أصواتهم من خلف الجدار الفاصل. الأغرب أنّ الأجواء الرتيبة والمُملة في الفيلم، والأحداث غير المتطوّرة، والدراما غير المُتصاعدة، تؤكّد، مع تقدّمها، أنّ شيئاً ساحقاً ومُرعباً، أكبر وأعمق مما نراه، يحدث خلف هذا كلّه.

تفكير وطرح ومعالجة كهذه دُرِست جيداً، انطلاقاً من السيناريو (غلايزر)، المُقتبس بتصرّف كبير عن رواية بالعنوان نفسه (2014)، للبريطاني مارتن أيمِسْ، الذي توفي في 19 مايو/أيار 2023، بعد يوم واحد فقط على العرض الأول للفيلم في "كانّ".

إلى السيناريو، هناك حضور قوي وبارز للتمثيل، وهذا ليس جديداً على الممثّلين الذين يُحسِن غلايزر دائماً اختيارهم وتوظيفهم، واستخراج أفضل ما لديهم. مثلاً، بِنْ كينغسلي في "وحش مثير" (2000)، ونيكول كيدمان في "ولادة" (2004)، وسكارليت جوهانسن في "تحت الجلد" (2013). هذا ينطبق أيضاً على بطلي جديده: كريستيان فريدل في دور رودولف هوس (الضابط النازي في SS)، الذي أدّى دور المُعلّم في "الشريط الأبيض" (2009) لمشائيل هانيكي، وإلْسر في "13 دقيقة" (العنوان الدولي، 2015) لأوليفر هيرشْبيغل؛ وساندرا هولر (هيدفيش هوس)، مؤدّية دوري إيناس كونرادي في "توني إردمان" (2016) لمارِن أدي، وساندرا في "تشريح السقوط" (2023) لجوستين تريَّية، الفائزة بـ"السعفة الذهبية" في "كانّ" ("العربي الجديد"، 31 مايو/أيار 2023).

كما تبرز كاميرا لوكاش زال، مدير التصوير البولندي المُحترف، الذي لفت الانتباه في "إيدا" (2013) و"حرب باردة" (2018)، لمواطنه بافل بافليكوفسكي. فبمُنتهى البرود والجمود والحيادية، تلتقط كاميراه، من مسافة بعيدة، الممرات والطرقات، والحُجرات الداخلية وقاعات الطعام في طابقي المنزل ومحيطه وحديقته، في لقطاتٍ استعراضية وكاميرا ثابتة، متعمّداً عن قصد تجنّب اللقطات المقرّبة، معظم الوقت، حتى للكلب. إضافة إلى سيطرة اللون الأحادي، الذي يُحيل إلى أفلام بدايات القرن الماضي.

مع هذا البرود والحاجز النفسي، هناك صدق بالغ، وطبيعية ملموسة، وانسيابية فريدة، في تقديم الحياة اليومية العادية، الجارية في المنزل؛ وروتين الشخصيات الجامدة والمُخيفة، وشبه الشمعية. أيضاً، النوتة الموسيقية للمؤلّفة مايكا ليفاي، التي لا تقلّ اختلافاً وابتكاراً وإرباكاً وصدمة عن الفيلم. إذْ يصعب تفسير أصواتها بدقّة، وعلى حدة: مُشوّهة ومُضخّمة عن عمد، فتبدو مزجاً غامضاً لصراخ وأنين وأنفاس باطنية مكتومة. ورغم أنّها لا تتكرّر كثيراً، لأنّها تُسمع في افتتاح الفيلم ومنتصفه وختامه، يتردّد تأثيرها الإعصاري في الأذن فترة طويلة بعد انتهاء المُشاهدة. ما يُرسّخها ويُعمّق تأثيرها، أنّها تأتي مصحوبة بظلامٍ يمتدّ على الشاشة طويلاً.

في افتتاح الفيلم، يستمرّ الفراغ والسواد فترة أطول من المقبول. بعد ذلك، يأتي المشهد الأول لعائلة صغيرة، وبعض الأصدقاء، في لقطة واسعة ناعمة، يتمتّعون بهدوء واسترخاء، وبالشمس، إلى جوار بحيرة محاطة بالخضرة. يضحكون ويتحدّثون ويُجفّفون أجسادهم بعد السباحة، قبل الانصراف. ورغم أنّهم لا يظهرون عن قرب، يُلمَس شعورهم بالأمان والطمأنينة والسعادة.

في مَشاهد لاحقة، يظهر المنزل، مكان غالبية الأحداث، ويتمّ التعرّف تدريجياً إلى الحياة الطبيعية للعائلة، المكوّنة من أب وأم و5 أولاد. الأب قائد معسكر أوشفيتز، رودولف هوس، وزوجته هيدفيش، يعيشان في سعادة وهناء في ذاك المنزل الواقع على الجانب الآخر من المعسكر، سيئ السمعة. رودولف شخصية حقيقية، ومدّة إشرافه عليه كانت الأطول بين القادة النازيين جميعهم. أب صالح، يحبّ أطفاله جداً، ويقرأ لهم قصصاً قبل النوم. يعامل زوجته باحترام وتقدير، ويحرص على الانضباط في منزله، وإغلاق الأبواب والمصاريع، وإطفاء الإضاءة بنفسه كل ليلة. من ناحية أخرى، هو موظّف حكومي نشط للغاية، ومخلص بشدّة للفوهرر، ولوظيفته. كلّ ما يفعله يصبّ في مصلحة بلده.

هيدفيش، ربة منزل رتيبة وحانية ومُتطلّبة للغاية من خادماتها اليهوديات، خاصة بالنسبة إلى تحضير وجبات الطعام، وتنظيف المنزل وترتيبه، والتجهيزات الجارية للاحتفال بعيد ميلاد زوجها، ما يجعل كلّ شيء، بما في ذلك الملابس، نظيفاً وجديداً وحديثاً وغالياً. أما الشخصيات الأخرى حولهما، فعسكر وخدم، وأدوارها هامشية، بمن فيهم الأولاد، باستثناء ابنة تُعاني اضطرابات نوم وكوابيس، نتيجة وعيها بوجود المعسكر، وإمكانية رؤيته من نافذة غرفتها. طول الفيلم، هناك الحياة المنزلية اليومية للعائلة: زيارات ودية، خدم يحافظون على المنزل نظيفاً، وهيدفيش تعتني بـ"الفردوس" الخاص بها. أي "جنّة عدن" التي أقامتها فيه، وفي منتصفها بركة سباحة للأطفال. تفخر بكونها، كما تقول، "ملكة أوشفيتز المتوّجة".

 

 

بمعزل عن وجود المعسكر، يمكن رؤية "منطقة الاهتمام" سرداً اجتماعياً تقليدياً عن الرفقة، والحياة الزوجية المثالية، والرغبة في تحقيق الأفضل للذات والأسرة وحكومة البلد الذي يؤمن بها المرء ويُساندها، بالتزام القواعد، والعمل الجاد المخلص. ثم يشعر المرء أنّه يستحق الأفضل في الحياة، وأنّ كلّ شيءٍ في موضعه الصحيح. لكنْ، هل يُمكن مقارنة هذه الأسرة وحياتها وتطلّعاتها بغيرها من الأسر في العالم؟ أم أنّهم بُلداء ولا إنسانيين، أو مرضى، يتلذّذون بأصوات الصراخ والتعذيب والرصاص والقتل حولهم؟

في "منطقة الاهتمام" ـ التي تبلغ مساحتها 40 كيلومتراً مربعاً وتحيط بالمعسكر، في ضاحية "أوشفيتشيم" بالقرب من كراكوف (غربي بولندا) ـ لا يقتصر الأمر على تجنّب غلايزر فظائع معسكر الموت فقط، بل تعمّد وضع الرعب على الحواف. ثم إبرازه، بشكل أفضل وأقوى، عبر انفصال الأسرة عن محيطها، وكيف أنّها ليست في حالة إنكار أو تجاهل متعمّد، بالعكس، فأفرادها قرّروا التعايش مع الوضع وتقبّله، وحتى الوقوع في غرامه، بفضل سحر المكان. لذا، يُعتَبر سماع البكاء والنحيب والصراخ المكتوم، وأوامر إطلاق النار، وأصوات الرصاص، مصدراً لتلوّث طبيعي، وإزعاج يومي عادي من مذياع أو تلفزيون. بالتالي، يمكن رؤيتهم كأسوياء وبشر عاديين، يعيشون حياتهم بشكل طبيعي وروتيني، في فقّاعتهم الخاصة.

يستعرض غلايزر حياة أفراد العائلة، واضعاً إياهم تحت المجهر. هذا يجعل الفيلم خالياً، إلى حدّ كبير، من الحبكة التقليدية، أو الدراما المتطوّرة، بالمعنى المتعارف عليه. فقط، تتصاعد الأحداث وتتعقّد، وتُعَبِّر الشخصيات عن مكنوناتها، قبل النهاية بقليل. يُفجّر الأمر خبر نقل هوس إلى برلين، للإشراف على معسكرات الاعتقال في ألمانيا، ما يُسبّب صدمة بالغة وقاسية لزوجته، الغافلة عن كلّ شيء خارج منزلها، إلى أنْ أصبح هذا الوجود مُهدّداً، فتغضب كثيراً، وتطلب من زوجها بذل جهدٍ للبقاء في أوشفيتز، المنطقة المثالية لهما ولتربية أولادهما. يحاول هوس فعل هذا، من دون إغضاب قادته.

هناك 3 مشاهد مصوّرة بتقنية التصوير الحراري، لتبدو حمراء غير واضحة، لفتاة صغيرة تخفي الفاكهة للسجناء. لقطات مُبرَّرة، بربطها بقراءة هوس حكايات قبل النوم لأولاده. لكنّ الفعل نفسه يبدو غريباً، ويحتاج إلى تأويلات كثيرة. هذه المشاهد، وأخرى مُباشرة، تحسم من رصيد الفيلم وجمالياته وقوّته، كإلقاء رماد في الحديقة لتخصيب العشب، وعثور هوس على علبة غاز ألقيت في النهر، حيث يلعب أولاده ويسبحون. أو بعد سفره إلى برلين، لحضور حفلة نازية فخمة في قصر أوبرالي مهيب، يخبر زوجته هاتفياً، عندما تسأله عن الموجودين فيها، أنّه لا يهتمّ، لانشغاله بالتفكير في كيفية استخدام الغاز في مبنى له أسقف عالية كهذا.

إلى هذه المشاهد، وبغضّ النظر عن جمل حوارية مباشَرة قليلة، تُفصل الخاتمة الغريبة وشبه الوثائقية عن دراما "منطقة الاهتمام"، وشخصياته وأسلوبه وحالته وزمنه، إذ تُصوّر الدقائق الأخيرة في متحف أوشفيتز، حالياً، مع تنظيف عاملاتٍ أرضياته وخزائنه.

المساهمون