ملابسات فقدان "سنعود" الجزائري

13 ديسمبر 2022
محمد سليم رياض (1932 ـ 2016): نكبة شخصية كنكبة فلسطين (العربي الجديد)
+ الخط -

قبل عامٍ على رحيله، تواصل معي الكاتب والناقد السينمائي الفلسطيني بشار إبراهيم (1962 ـ 2017) سائلاً، بحرقة وحسرة، عن الفيلم الجزائري ـ الفلسطيني "سنعود" (100 دقيقة، 1972) لمحمد سليم رياض (1932 ـ 2016). كان جوابي له بالحرقة والحسرة نفسيهما: المؤشّرات كلّها تدلّ على أنّ الفيلم مفقودٌ، بخاصة أنّي تواصلت مع جهات عدّة لمعرفة خلفيات هذا الأمر، لكنها أظهرت عدم علمها بمصيره. ثمّ يعرض بعد أعوامٍ طويلة من الاختفاء، في إحدى قاعات الـ"سينماتيك"، وفي التلفزيون الرسمي، لكنْ بنسخةٍ رديئة ومقطوعة الأوصال، ما يوحي أنّ عملية حفظه لم تكن علميّة وتقنية. هذا أظهره الصوت والصورة السيئان.

لذا، وجَبَ التساؤل عن سبب حرمان "سنعود" من برنامج عمليات الترميم، التي عرفتها أفلامٌ جزائرية كثيرة. كأنّ الأمر مدروسٌ، حتّى يتكفّل الزمن به، ويُعدَم بطريقة غير مباشرة. كما وجَبَ التساؤل عن الجهة، أو الجهات التي لا تريد أنْ تظهر النكبة الفلسطينية، وإفرازاتها المأسوية عبر الأجيال، سينمائياً. أو عن "اليد الأخطبوطية" المنتشرة عبر جهات ومصالح، لعرقلة كلّ مشروعٍ يحمل بعداً عربياً قومياً، كـ"سنعود". ولعلّ الجواب، الذي ساقه محمد سليم رياض في حوار له، عن سبب غيابه أو تغييبه عن المشهد السينمائي، يحمل في طياته معاني واتهاماتٍ كثيرة: "سليم رياض ما زال موجوداً وحاضراً، وما زال مناضلاً يقوم بواجبه. عندما تمّت دعوتي لبّيتُها، وعندما تركوني أعمل شغلي قدّمتُ أشياء. أمّا اليوم، فالأمر مختلف. الإنتاج السينمائي أصبح صعباً، لأنّ الأمور تغيّرت، وجوّ العمل اختلف كثيراً".

يومها، قال سليم رياض أكثر من هذا: "لا أعتقدُ أنّه يُمكن العمل في الجوّ الذي تعرفه السينما الجزائرية اليوم، كما كنّا نفعل في السبعينيات الفائتة. حينها، كانت الإمكانيات متوفّرة، والجوّ مناسباً. عندما أنجزتُ "سنعود"، ذهبتُ إلى فلسطين والأردن ودمشق لإتمامه. اتصلت بجورج حبش، وبمسؤولين كانوا موجودين حينها. حضّرتُ للعمل جيداً، وجمعتُ الإمكانيات الضرورية لإنجازه، وأنجزته".

 

 

"سنعود" الفيلم الروائي الوحيد، في البلدان المغاربية، الذي تناول موضوع النكبة الفلسطينية، سياسياً وعسكرياً، وما أفرزته على الشعب الفلسطيني من كارثةٍ، لا تزال آثارها منتشرة إلى اليوم: عملية مُحاصَرة شديدة، قامت بها فرقة عسكرية إسرائيلية، مُدجّجة بالأسلحة، لفدائيين فلسطينيين، يهتدي أحدهم، لفكّ الحصار، إلى فكرة فدائية، تتمثّل بتسليم نفسه لضابط إسرائيلي. وما إن يقترب منه الضابط، مُنتشياً بإلقاء القبض عليه، يفاجئه الفدائيّ بإلقاء قنبلة يدوية تقتلهما معاً، فيعمّ الذعرُ والهلع العدو، ما يتيح للفدائيين فرصة فكّ الحصار، والعودة إلى قواعدهم سالمين.

مثّل في الفيلم، المُصوّر في الجزائر وسورية والأردن وفلسطين، عبد الحليم رايس وحسّان والحساني ومحمد بن قطاف (الجزائر)، وزهرة فايزة (تونس)، ورفيق سبيعي وهالة شوكت (سورية). كتبه أحمد راشدي وآنيا فرانكوس، وأُنتج بالتعاون مع "منظّمة التحرير الفلسطينية".

مرّ نصف قرن كامل على إخراج "سنعود". رغم هذه المدة الزمنية الطويلة، يبقى الفيلم الجزائري والمغاربي الوحيد الذي تناول نكبة فلسطين بتلك التفاصيل والجرأة، بينما تغيب القضية الفلسطينية بشكلٍ كامل تقريباً، إذْ حضرت في مشهدٍ عابر في فيلمٍ ما. حضورٌ هامشيّ، لم يكن أبداً موضوعاً أساسياً وجدّياً.

يأتي هذا رغم الخطابات السياسية والدينية والمجتمعية، الحاضرة في كلّ مناسبة، التي تنادي بفلسطين وحريتها، وتشجب النكبة ومآسيها. هذا كلّه لم ينعكس في الأفلام. كأنّ المخرجين يخافون من تداعيات هذا الموضوع، محلّياً ودولياً، كما صناديق الدعم. لكنّ المؤكّد أنّ هناك جهات محلّية تعمل على وأد أيّ توجّه عربي قومي، خدمة للغرب عامةً، واعتناقاً لأيديولوجيّته في عدم إعطاء القضية الفلسطينية الأهمية التي تليق بها، لتكون محوراً أساسياً، وعلى رأس القضايا العربية وأولويّاتها. حتّى أنّ هناك تخويفاً غير مباشر لكلّ من يتجرّأ على الاقتراب من الموضوع، لأنّ مصيره سيكون التناسي والإهمال، كما حدث مع محمد سليم رياض، الذي رحل وفي مكتبه أربعة سيناريوهات جاهزة، لم يجد جهةً تُنتج أيّ منها، وفي قلبه حسرة عميقة، لم يجد فضاءً يطلقها فيه.

المساهمون