يطرح فيلم "فرحة" (2021)، للمخرجة الأردنية دارين ج. سلاّم، قبل الحملة الصهيونية عليه ومعها، سؤالاً نقدياً، يتمثّل بغيابٍ شبه كامل لأفلامٍ عربيّة، أساساً، ترتكز حبكتها الدرامية على نكبة فلسطين (1948) تحديداً، وعلى أوضاع بيئتها وأحوال ناسها، في تلك اللحظة التاريخية، التي يحدث فيها إجرامٌ، يتمثّل بقتلٍ ونهبٍ واغتصابٍ وسرقةٍ وتشريدٍ، يمارسه صهاينة بحقّ الفلسطينيين/الفلسطينيات. هذا يُقابله "غزارة" إنتاجية لأفلامٍ، تسجيلية/وثائقية أكثر من الروائية، تعاين أحوالاً ومسائل وحالات فلسطينية مختلفة، خاصة في لبنان، بدءاً من ستينيات القرن الـ20، مع تدفّق أموال فلسطينية، يُصرف جزءٌ منّها على مؤسّسات واشتغالات ثقافية وفنية وفكرية.
أحوال ومسائل وحالات فلسطينية يغوص فيها لبنانيون وعربٌ مُقيمون في بيروت بقناعةٍ أساسية، تقول بضرورة توثيق وقائع ويوميات فلسطينية في بلاد الشتات. غوصٌ كهذا منبثقٌ من التزامٍ أخلاقي وثقافي وفكري وحياتي لأناسٍ، بعضهم قادمٌ إلى السينما من الصحافة/الإعلام المرئيّ، وبعضهم الآخر من دراسات أكاديمية، كالعلوم السياسية والحقوق وعلم الاجتماع، غالباً، من دون تناسي دارسي السينما. "الهمّ الفلسطيني" يحضر كثيراً في الاجتماع اللبناني، ويُسبِّب انشقاقاتٍ داخلية، لها أسبابٌ أخرى أيضاً، ترتبط بالنزاع الطائفي المزمن، والصدام في الأفكار والانتماءات والسياسة والثقافة، أقلّه منذ استقلال 1943. الهمّ نفسه سيكون أحد أبرز أسباب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، التي تشهد إنتاجاً سينمائياً موزّعاً على عنوانين بارزين: الحالة اللبنانية، والهمّ الفلسطيني.
أمّا النكبة، فغائبةٌ عن هذا "الهمّ الفلسطيني"، سينمائياً، في لبنان ودول عربية أخرى. رواية "باب الشمس" (1998)، للّبناني الياس خوري ـ التي يُحوّلها المصري يُسري نصرالله إلى فيلمٍ بالعنوان نفسه (2004)، بجزأين: الرحيل والعودة ـ وثيقة أدبية عن حكاية فلسطينية تمتدّ سيرتها على أعوام عدّة، وتنتقل في أزمنةٍ وأمكنةٍ فلسطينية ولبنانية، مع اقترابٍ من النكبة، لن يكون معاينةً مباشرة ووحيدة لها، بل اكتفاء بها كحدثٍ وحالةٍ ونتائج وآثار. هذا يختلف عن "أولاد الغيتو"، لخوري نفسه، الصادرة في ثلاثة أجزاء: "اسمي آدم" (2016)، و"نجمة البحر" (2019)، و"رجلٌ يُشبهني" (2023). فالنكبة فيها حاضرةٌ، وحكايات ناجين/ناجيات من مجازرها الصهيونية تكشف وقائع قاسية، بلغة سردية جاذبة وممتعة ومؤثّرة. روايةٌ كهذه قابلةٌ لأنْ تكون فيلماً، يروي أشياء أساسية من جريمة النكبة بنصٍّ عربيّ، يواجِه "الرواية الصهيونية"، التي يستمرّ إسرائيليون/إسرائيليات عديدون في فضح تزويرها/إخفائها حقائق ووقائع.
استعادة أفلامٍ وثائقية عربية، معنيّة بالهمّ الفلسطيني، تحتاج إلى قراءات نقدية عدّة، بحثاً في اشتغالاتها، الفنية والبصرية والتقنية، وفي أساليب إخراجها، علماً أنّ غالبيتها الساحقة تتعامل مع الفلسطيني/الفلسطينية كضحية أو بطل، مع شيءٍ من تقديسٍ يُحيط بهما. كلّ نقاشٍ يتناول الفلسطيني/الفلسطينية كبشريّ ـ يعيش ويعاني ويواجه ويحلم، ويُحقّق ما يصبو إليه، أو يفشل في ذلك، ويتألم ويفرح ويغادر ويبقى ـ غير مسموح به حينها، والـ"منع" هذا منبثقٌ من أحوال تلك الفترة، فللنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وضد متعاملين/متعاملات معه في الداخل اللبناني مثلاً، أولويةٌ لا تُمسّ، ومن أجله تُسخَّر الأدوات كلّها، المادية والفكرية والمالية، ومنها السينما التسجيلية/الوثائقية أولاً.
الأفلام الروائية، المعنية بـ"نكبة الـ48"، نادرةٌ. المصرية منها، مثلاً، مهمومةٌ بالجندي/الفدائي المصري، وبنضاله ومشاعره العاطفية وعلاقته بأهلٍ/سلطة، أكثر من اهتمامها بالفلسطينيّ، فرداً وجماعة وقضية وأرضاً وتاريخاً وقهراً واحتلالاً صهيونياً. النكبة نفسها تمرّ في "الليل" (1992)، للسوري محمد ملص، في سياق استعادة شابٍ حياة والده المدفون في القنيطرة، مُعتمداً على ذاكرة والدته. استعادة تتجاوز نكبة الـ48 إلى ما قبلها بأعوامٍ، وتتوقّف عندها، كما في لقطات عبور "جيش الإنقاذ" في المدينة، متوجّهاً إلى فلسطين، التي (مدينة القنيطرة) تحتلّها إسرائيل في "حرب الأيام الستة" (5 ـ 10 يونيو/حزيران 1967)، وفي تداعيات بصرية وتأمّلية أخرى.
لكنّ "الليل" غير محصورٍ بالنكبة وحدها، على نقيض فيلمين اثنين مُقتبسَين من رواية "عائدٌ إلى حيفا" (1969) للفلسطيني غسان كنفاني: أوّلهما (1982) للعراقي قاسم حول بالعنوان نفسه، وثانيهما (1995) للإيراني سيف الله داد بعنوان "المتبقّي". الرواية معقودةٌ على لحظة النكبة، وعلى تداعياتها متنوّعة الأشكال والتأثيرات، في البنية النفسية للفرد الفلسطيني تحديداً. الفيلمان يجهدان في ترجمة النصّ الأدبي إلى صُور سينمائية، بحثاً في كيفية تحويل الصورة إلى واقعٍ، وجعل الواقع صوراً حيّة، تؤرّخ، بصرياً، تلك اللحظة وبيئتها وتحوّلاتها القاسية. ورغم أهميتهما، كنصٍّ وحكاية، لن يبلغ الفيلمان مرتبة الإبهار السينمائي، فالقضية أهمّ، والتحوّلات ـ الحاصلة لحظة النكبة ـ تفرض حضورها على حساب الاشتغالات الفنية والدرامية والجمالية. هذا لن يحول دون التنبّه إلى جدّية الفيلمين، في سعيهما الواضح إلى إبراز المناخ العام، جغرافياً واجتماعياً ونفسياً، كما على مستوى الأزياء والتقاليد وطبيعة الأمكنة.
المناخ العام نفسه يحضر، بجمالية سينمائية أهمّ وأعمق وأوضح، في "الزمن الباقي" (2009)، للفلسطيني إيليا سليمان. الاشتغال الدقيق على التفاصيل المختلفة، في الجغرافيا والعمارة والأزياء والانفعالات والأحداث، كفيلٌ بترجمةٍ سينمائية تمنح المُشاهِد المهتمّ شعوراً بحضورٍ ذاتيّ في اللحظة وبيئتها. هذا حاصلٌ أيضاً، وإنْ بأسلوب ومضمون آخرين، في الفيلم القصير "الببغاء" (2016)، للأردنيين دارين ج. سلاّم (أيضاً) وأمجد الرشيد: بُعيد النكبة بوقتٍ قليل، يُمنح منزلٌ فلسطيني لعائلة يهودية مشرقية، تواجِه "ثقل" الحضور الفلسطيني فيه، رغم التخلّي السريع عنه خوفاً من عنف الصهيونيّ المحتلّ، القاتل والسارق، والمزوِّر لاحقاً.
وإذْ يُثير "الزمن الباقي" انفعالاتٍ مرتبطة بتمكّن الديكور والنصّ والسرد من إعادة الجغرافيا والتاريخ إلى الراهن، بأكثر الأشكال مصداقيّة تؤكّدها مراجع ووثائق عدّة، من دون إغفال الهمّ السينمائيّ في صُنع الفيلم؛ وفي مقابل "الببغاء"، الذي يختزل الحبكة بمواجهة العائلة اليهودية المشرقية أثراً فلسطينياً فاعلاً، بقوّة، في الداخل (المنزل) تحديداً، كانعكاسٍ لثنائية النزوح/البقاء؛ فإنّ فيلمي "عائد إلى حيفا" و"المتبقّي" يُتيحان للقصّة، بمختلف جوانبها، حيّزاً أكبر، من دون إهمالٍ كبيرٍ للشكل الجغرافي الخاص بالمدينة وتفاصيلها المختلفة.
"فرحة" الأردنيّ نموذجٌ لمعنى التناول السينمائيّ لـ "نكبة الـ48"، الذي (المعنى) يحرّض متطرّفين إسرائيليين صهاينة على بثّ مزيدٍ من أفعال الحقد والغضب والعنف، اللفظيّ على الأقلّ، ضد الرواية الفلسطينية/العربية، أو ضد شيءٍ منها. كلّ نقاشٍ نقدي، سينمائياً وثقافياً وأخلاقياً، يتناول "فرحة"، مقبولٌ بل مطلوبٌ، فالسينما تحتاج دائماً إلى نقاشات تعكس آراء مختلفة، ومتناقضة أحياناً. لكنّ الحملة الصهيونية عليه ـ وإنْ تكن مفهومة، لأنّ العقل الصهيوني يرفض كلّ الخارج على روايته، التي فيها تزويرٌ وإخفاءٌ ـ يُفترض بها (الحملة) ألاّ تُشغل النقد السينمائي عن جوهر المسألة: كلّ كشفٍ لحقيقة أو واقع مؤكّدين فعلياً، يُثيران همجية إسرائيل وحقدها وعنفها وغضبها. وهذا جزءٌ أساسيّ من مقاومتها أيضاً.
حملةٌ كهذه، ضد فيلمٍ يستعيد لحظة النكبة، وإنْ تتطلّب الاستعادة السينمائية قراءات نقدية أهدأ وأعمق، يُفترض بها (الحملة) أنْ تحرِّض على اشتغالات سينمائية، فلسطينية وعربية، أكثر وأعمق وأجمل، تتعلّق بالنكبة تحديداً، وبكلّ التداعيات والتأثيرات الناتجة منها.