استمع إلى الملخص
- **مفاهيم التطوير والهوية والموروث**: سعيد يرى أن التطوير يجب أن يكون ذاتيًا باستخدام المعطيات المتاحة، مشددًا على أن الحفاظ على الإرث النغمي وتطويره يعزز الهوية والحضارة العربية.
- **فرقة "أصيل" ومساهمتها في المشروع**: أسس سعيد فرقة "أصيل" في 2003 لتقديم نغم عربي معاصر، تهدف لحفظ وتعليم الإرث النغمي العربي، واستمرت لأكثر من عشرين عامًا رغم قلة الدعم.
حملت بداية الألفية الثالثة دعوة جديدة لأهل النغم، أطلقها الموسيقي والباحث المصري مصطفى سعيد يدعوهم فيها إلى تجديد الموسيقى العربية "من الداخل"، رافضاً نهجاً حاول أن يؤدي تلك المهمة عبر دمج موسيقانا مع أنواع مختلفة من الموسيقى الغربية. وقد أذاع سعيد منذ ذلك الحين موسيقاه "ذات النغم الفصيح" في مواجهة أخرى رأى أنها كُتبت بلسان غير عربي. وللتعرف أكثر إلى مشروعه الفني، كان لـ"العربي الجديد" هذه المقابلة معه.
ما الذي حملته الرحلة الدراسية الممتدة من المغرب العربي إلى وسط آسيا وتركيا ثم لبنان، إلى مشروعك؟
وهل مشروعي إلّا إعادة الاعتبار لهذا النغم الفصيح المُمْتدّ على طول هذه الأقاليم وعرضها؟ النغم ظاهرةٌ لسانيّة، وقد ظلّ النغم في هذه الأقاليم متّحد النظام، أعني النظام المقاميّ، منذ أكثر من 14 قرنًا، فهو لسان واحد، تتعدد فيه اللهجات. أعني لغة نغميّة واحدة، يمكن الغناء بها بعدّة لغات لسانيّة، فيمكن للنظام المقامي أن يُغنّى بالعربية أو الفارسية أو التركية أو اليونانية، مثلًا لا حصرًا، إضافة إلى ما يتفرّع عنها من لهجات محلية. وإني حين أقول نغماً، فإني أقصد النغم، سواء قُرنَ بكلام أو لم يُقرن، فاللغة هنا تشمل النغم الآليّ الذي لا كلام فيه.
هناك معانٍ حاضرة دومًا في حوارتك ولقاءاتك، مثل: التطوير، والهوية، والموروث. ماذا تقصد بهذه المفاهيم؟ وهل طرأ عليها تغيير منذ أن بدأت في سعيك إلى تجديد الموسيقى العربية؟
إذا كان الإرث النغميّ سيُعامل بصفته متحفًا، صنمًا يُعبَدْ، فالأفضل ذهابه، أما الحفاظ عليه، والتمسّك به وبما يحمل من هويّةٍ، فإنّما هو لاستمرار الحضارة والتطوّر والتحرّر أيضًا. انظر حولك، ترى أنّ كلمة "تطوّر" أو "تقدّم" أصبحت تُرادف في شتّى المجالات، مفردة "استيراد"؛ كأنّ حضارتنا أضحت جامدة، عاجزة عن الاستمرار والتطور، فإذا كان هذا منطق العيش في أمتنا، حكومات وشعوبًا، فكيف لنا أن ندّعي تحرّرًا من استعمار، لم يزل يأخذ مواردنا خامًا، ويعيدها لنا مصنوعةً، كأنّنا أعجز عن أن نصنع لباسنا وطعامنا وشرابنا؟
نعم، عجزنا عن كلّ هذا، لأنّنا استسلمنا لحقيقةٍ زُرِعَتْ فينا جيلًا بعد جيل؛ حقيقة أنّ حضارتنا تخلّفَتْ عن ركب الحضارة الإنسانيّة، ولن نستطيع اللحاق بهذا الركب، إلّا بالترقيع واستيراد أسباب التقدّم والتطوّر من الحضارة المتقدّمة. والنتيجة، استُعْمِرَت العقول قبل الأرض.
لكن ماذا يعني مفهوم التطوير عند مصطفى سعيد؟
ليس يعني إلّا ما يعني: الانتقال من طورٍ إلى طورٍ جديد؛ فإذا أنت قلّدتَ لسانًا آخر، أو بناءَهُ، أو شعره، أو نغمه، فأنت لم تفعل لنفسك شيئًا، غير أنّك قصصت شيئًا من مكانه، ولصقته عندك، فلم تعد أنت، ولم تستطع أن تكون الآخر، لأنّك لم تبتكر، بل قلّدتَ. أمّا الابتكار، فأن تأخذ ما عندك من معطياتٍ، وتنتقل بها، ابتكارًا، إلى ما يجعلها ملائمةً لما بعدها من عصور، فلا تقف جامدًا عند ما ورثتَ عن آبائك وأجدادك، بل تأخذ منه سندًا، يعينك على زيادته ودعمه فيكون إرثًا أوسع لأبنائك وأحفادك، فهذا دور الإنسان في عمارة الكون، هذا ما أراه فرقًا بين التطوّر والتقدّم، والقصّ واللصق.
وأظن لا يخفى عليك المثل الموجود في "كليلة ودمنة" عند ابن المقفَّع: هذا الغراب الّذي أراد تقليد مشية الحَجَل، فلا هو استطاع تقليده، ولا هو استطاع العودة إلى مشيته، هذا ما أحاوله لنغمنا، وأتمنّى أن يوجد من يحاول هذا لأمّتنا في سائر المجالات، فلا نصل إلى وقت لا نستطيع فيه حتى العودة لأن نكون نحن. مسخ حضارتنا كائنٌ، نعم، لكنّ الأمل في استمرار حضارتنا ما زال موجودًا، فما زلت أرى أن بالناس خيرًا كثيرًا، وأنّنا قادرون على أن نضيف للحضارة الإنسانيّة ما يزيدها بهاءً وأمنًا.
ما الذي يجعل موسيقاك معاصرة؟
هذا سؤالٌ يُسأَلُهُ غيري، غاية ما أستطيع قوله إنّي أحاول أخذ ما لدينا من موروث نغمي وأدبي، فأضعه سندًا لي أتّكِئُ عليه، فأُعمل فيه ما يفيض عليّ الباري من فكر، بفضله وعلمه وفيضه، فيخرج هذا النغم، فلا يشبه القديم، ولا ينسلخ عنه، لكن، صدقًا، هذا سؤالٌ لستُ من يُجيب عنه، بل يجيبك عنه سامعٌ لهذا النغم.
"رباعيات الخيام"، و"أصيل"، و"البردة"، و"توحد". ما الذي قدمته في تلك الألبومات مما تطمح إليه؟
حاولتُ في كلا المجالَين، صوتًا وآلةً، أن أضع ما أُفيض عليّ في نغم جديد، بعد أن سعيت إلى استيعاب إرث غاب عن أغلب أهل النغم والأدب في بلادنا. حاولتُ في ما ذكرتَ، وفي غيره. فمع "أصيل" سيبدأ إصدار "زوّار المقام" أوّل وصلاته، قريبًا. وعلى العود المنفرد، صدر حديثًا "النبع والغار". أمّا إن كنت وُفّقت لهذا، فلست من يحكم. لكن، أقل ما أقول، إنّي لو استطعت أن أُقنع جيلًا أصغر بأنّ النهضة الذاتيّة ممكنةٌ، فيحملون هم هذه الشعلة، ويضعون نغمًا جديدًا أصيلًا.
إلى من تنتسب في الموسيقى العربية من بين مجدديها؟
إلى كلّ من رآها قادرة على التجدّد الذاتي، من دون استيراد، من بن مسجح، في صدر الإسلام، إلى شيخنا محمّد عمران.
إذن ما موقفك من أسماء مثل سيد درويش وعبد الوهاب والقصبجي وآل رحباني؟
عن تلك الأسماء إذا كنت تقصد منهج الاستيراد ففي زمانهم، كانت الهزيمة حديثة العهد، سقطت منطقتنا تحت الاستعمار، بأسهل ما يكون، واحدة تلو الأُخرى وتقسمت الأمة إلى دويلات، كلّها تخدم المستعمر. خرائط فرضت على الشعوب، لم تكن لهم في تقسيمها ناقة ولا جمل. انسحقنا أمام الصدمة التقنيّة والمعرفيّة، والمدنيّة أيضًا. ربّما لو عشت في زمانهم، لفعلت مثلهم، أو أكثر منهم. الله أعلم.
السؤال: ألم يحِن لنا استيعاب أسباب هذه الهزيمة؟ وسحق روح الانهزام في أنفسنا؟ ثمّ إعادة روح النهضة والتطوّر الذاتيّ؟ سؤالٌ آخر: لماذا حصر تقليد نغمي في قرنٍ أو نصف قرن؟ لماذا لا يسأل الناس عن عبد المؤمن الأُموي أو عبد القادر المراغي أو الشريف شلبي أو خضر أغا أو مصطفى الصيرفي أو سليمان النحّاس أو ميخائيل مشّاقة أو محمّد العطّار أو شهاب الدين محمّد بن إسماعيل بن عمر أو عبده الحامولي أو محمّد عثمان أو محمّد بن رحاب أو خديجة المصريّة أو عائشة الجنكيّة أو عزيزة بنت السطحي أو ساكنة هانم أو ألمظ أو أسما الكمسريّة، وغيرهم كثر؟ لهم أعمال أغلبها غابت، ليس بانقراضها، بل لانصراف أدوات التوصيل وأهل النغم عنها.
في كثير من لقاءاتك تذكر أن الموسيقى هي كسر الصمت. ماذا تفعل في فترات صمتك التي تتخلل إنتاجك الموسيقي؟
الصمت، التدبّر، إعمال الفكر، عندي عملٌ، لا أعرف إذا كان صالحًا للإصدار، إنّما عرضته كثيرًا في عروض حيّة، اسمه "في رحاب الصمت"، أحاول فيه استرجاع ما قد يخطر للواحد منا في صمته، حين لا يسمع شيئًا. وضعت نفسي محل تجربة، وحصرت النغم نموذجًا، فحاولت استدعاء ما يدور في رأسي من نغم مهما اختلط، وخرج العمل في هيئة حوارٍ بين عودي وصوتي، مع أكثر من عشرة تسجيلات، تُذاع فرادى حينًا، ومجتمعة حينًا آخر.
ذكرت في لقاءات لك أنه منذ ما يقرب من قرنين ونحن نكتب الموسيقى العربية بالإفرنجية. ما الذي تقصده بذلك؟
بما أنّ النغم ظاهرةٌ لسانية، له لغات تتفرّع عنها، ولهجات ولكنات وأساليب لا حصر لها؛ فالحاصل أنّنا في ما يخص النغم، كمن يتعلّم اللغة العربيّة عبر أسلوب يليق بغير الناطقين بها. ففي مدارسنا، مثلًا، يتعلّم الأطفال الإنكليزيّة بالعربيّة، لأنّ الإنكليزية ليست لغتهم الأم. فإذا ما تمكّنوا منها، أكملوا التعلّم من دون الحاجة إلى اللغة الأم، فتعلّموا الإنكليزيّة بالإنكليزيّة، من دون الحاجة إلى التمثيل بالعربيّة.
نظامنا النغميّ يعتمد المقام نهجًا في سير النغم، من حيث النسب بين الدرجات النغميّة، ومجرى العمل صعودًا وهبوطًا بين الحدة والاعتدال والغلظة، أو الشدّة والإمالة والإرخاء. أمّا الإيقاع، فآخر ما يُنظَر إليه دورة الإيقاع الثابتة. بل أصل الإيقاع أوزان الكلام. لذا، كان الخلاف بين الإمام مالك والإمام الشافعيّ على تلاوة القرآن بالألحان. والألحان، في زمانهم، تعني النغم السائر على دورة إيقاعٍ ثابتة. فأجازه الشافعي، ولم يجزه مالك. لأنّ الشافعي رأى في جوازه تسهيلًا للقراءة الجماعيّة والحفظ. وذهب مالك لضرورة منعه، لأنّ ثبوت دورة الإيقاع، قد يخلّ بأحكام التلاوة، من مدٍّ وقصرٍ، إلى آخره. فأصل النظام النغميّ العربيّ تلاوة القرآن، ثمّ ما جاوره من شعرٍ، يُنظَم، فيُسهّل ثبات دورة الإيقاع، ولأنّ الأصل تلاوة القرآن، فإيقاع الوزن، أهمّ من إيقاع الحركة المنتظمة.
بناءً على ما لخّصتُ لك من النظام النغميّ العربيّ، فأصل تعلّمه فهم العربيّة، فهم قواعد التلاوة، فهم الأوزان، وبحور الشعر، كلّ هذا أثناء تعلّم تقنيّات الأداء الصوتيّ أو الآليّ، على أيّ آلة، حتّى لو كانت آلة إيقاع. والمسألة هنا ليس لها علاقةٌ بالأداء الصوتيّ فقط، بل بالنغم الآليّ أيضًا، فلا يمكن تعليم هذا النظام، بالنظام السلّميّ العدديّ، ومع الأسف، هذا ما يحدث الآن في زماننا، في صورة أقرب إلى ما تصوره حكاية الغراب والحَجَل، وعذرًا إذا كان كلامي متخصّصًا بعض الشيء، فسؤالك في صميم المسألة.
ما الذي قدمته فرقة أصيل التي أسستها في 2003 إلى مشروعك؟
تأسست "أصيل" لتؤدّي نغمًا عربيًا معاصرًا، بعد إتقان التراث، فهو نغمٌ مقاميٌّ ناطقٌ بالعربيّة، لزم استيعاب إرث هذا المقام، والاطّلاع على نغمٍ بلغاتٍ أُخرى تنهج نفس النظام النغميّ المقاميّ، مثل الفارسيّة والتركيّة واليونانيّة ووسط آسيا، إلى آخره. كان حلمي في العلم حفظ الإرث، فتعليمه، فنقله للأجيال، سمعًا وعلمًا، و"أصيل" تجسيد هذا الحلم في العمل. لذا، استمرّت أكثر من عشرين عامًا، من دون أيّ دعم ثابت لها من أيّ مؤسسة، مع ذلك أخشى أن يذهب هذا المجهود هدرًا، إن لم يتخذ نهجًا مؤسسيًا، ولعلنا، يومًا ما، قريبًا بالمشيئة، نجد أذنًا صاغية تُدرك وتدعم أنّ نهضة أمّتنا لن تكون إلّا ذاتيّةً، ولن تقوم بتقليد هذا، أو استيراد أسبابها من هؤلاء.