أتت منصة آبل تي في بلس في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2019 مُستهجنة بعض الشيء. توقع الجمهور أنها ستتخصص، كما "ديزني"، بمسلسلات جنراتها لا تبتعد عن العائلة والضحك والتوعية والمراهقة، لكن عملاق التكنولوجيا كان له هدف مختلف، ولدخوله إلى هذه الساحة علامةً واضحة، سياسية وإنتاجية.
في عامها الأول، أطلقت المنصة مسلسل See مع مجموعة قليلة من الأعمال الدرامية. أخيراً، انتهى عرض جزء See الأخير. أتت الأجزاء بثماني حلقات لكلٍ منها، وقد ثْبَتَت الشركة قدمها في هذا المجال. حُصدت مشاهدات كثيرة قبل الإغلاق العام، بسبب تفشي وباء كورونا، إذ تضاعفت المشاهدات خلاله بسبب بعض التقاطعات ما بين المسلسل والواقع.
الكاتب ستيفن نايت المتخصص في الأعمال الديستوبية، كمسلسل "بيكي بلايندرز" (2013 - 2022) ومسلسل "تابو" (2017)، وضع عالمه من حيث الثيمة في مرحلة ما بعد الدمار (بوست أبوكاليبتيك). انتشرت هذه الثيمة بقوة بعد صعود اليمين المُتطرف في العالم. وعلى النقيض من تنوع السيناريوهات التي كُتِبت عن هذه المرحلة، إلا أنها بقيت مستقرة على خيارين فقط: إما دولة شمولية تسيطر على كل شيء حرفياً، أو عصابات إرهابية تتشكل وتسيطر على موارد معينة، تتصارع في ما بينها، وتدفع المجتمع إلى التخلف.
تضعنا الحلقة الأولى في الإطار الزمني بوضوح. نحن في المستقبل على بعد ستة قرون من دمار البشرية بسبب فيروس ما، نجى منه مليونا شخص لكنّهم أصيبوا بالعمى (ما أثار نقاشاً حول فقدان حاسة الشم والتذوق بشكل مؤقت بسبب كوفيد-19). خلال الستة قرون، ثَبَتَ قانون الغاب كما يتبين في البداية. أصبح البصر أسطورة. تعقدت شبكة العلاقات الاجتماعية أفقياً وعمودياً. الليل والنهار اختلف مفهومهما، وما يخص مصطلحات الرؤية والضوء اختفى. الحديد هو عظمٌ إلهي، والشمس هي لهيبٌ إلهي.
في المملكة التي تحكمها الملكة سيبيث كين (سيلفيا هوكس) تشكلت قوة عسكرية تحت قيادة الجنرال تاماكتي جون (كريستيان كامارغو) مهمتها صيد السحرة/المبصرين، وعلى رأسهم جيرلاماريل (جوشوا هنري) المبصر الذي اتهمته الملكة بقتل أختها وانتقاله من قرية إلى قرية لينجب أطفالاً مبصرين.
الملكة مضطربة ما بين حبها لجيرلاماريل، ذي الرمزية المسيحية التنويرية، وإحكام قبضة جهازها القمعي على المملكة كاستعادة لمفاهيم سلطة الكنيسة. البصر تهمة تطلقها على كل من يعارضها أو يشكك بحكمها الإلهي، على أساس مصلحتها بالتأكيد. يجيد الكاتب القبض على المشاهد بسرعة، لكنه يفلته بالسرعة ذاتها بسبب ميله إلى التشويق على حساب الغموض المفرط.
تستعد قبيلة آلكني للمعركة ضد تاماكتي جون؛ عميان ضد عميان. هذه القبيلة المختبئة في الجبال أرسل خائنٌ من أهلها رسالة للجنرال. الرسالة هي حبل له عقد عديدة مرتبة بطريقة معينة، محتواها أن لجيرلاماريل طفلاً سيولد في هذه القرية. القائد الحربي لهذه القبيلة، بابافوس (جيسون موموا)، صاحب الأداء الاستعراضي المناسب، يقود أتباعه إلى أعلى الجرف لصد صائدي السحرة. لكل مجموعة موهبة خارقة معينة، فهناك من يسمع أضعاف ما نسمعه، وآخر يمكنه إخفاء رائحته كي لا نشعر به.
تبدأ المعركة في لحظة ولادة ماغرا (هيرا هيلمر) لأطفال جيرلاماريل. تلد هانيوا (نيستا كوبر) وكوفون (أرشي ماديكوي) المبصرين. ماغرا زوجة بابافوس الهاربة من بطش أختها الملكة سيبيث تحاول تجنب صائدي السحرة بأي ثمن. ينسحب بابافوس ومن تبقى معه من المعركة مهزومين، فهم مجرد همج في مواجهة جيش مدرب محترف. تنطلق الشخصيات بعد مرور 17 عاماً من المعركة في رحلة إلى بيت التنوير، بيت جيرلاماريل.
استيعاب هذا الخيال للعيش مع القصة كان بحاجة إلى مخرج على مستوى أندريس أنغستروم وفرانسيس لورنس، مخرج سلسلة أفلام "ألعاب الجوع"، إذ قَدَما لنا تأملات تفصيلية ممتازة في الجزء الأول، ما فتئت تختفي في الجزءين اللاحقين، كالخوذة العسكرية التي تغطي الأعين لا الآذان، فما الفائدة من محجرين داخلهما قذحيتان صلبتان كالبورسلين؟
التمثيل الانفعالي المعتمد على بنية بابافوس العضلية لم تقابله قدرات أدائية بنفس الجودة من الممثلين، فكان أداء هانيوا وكوفون محدودا وغير مقنع. مشاهد القتال من دون النظر حَمَلتها المؤثرات الصوتية الخاصة أيضاً، فليست جميعها على نفس الجودة. يسعى طاقم العمل إلى توسيع العالم أمام الشخصيات، واكتشاف المزيد من الأماكن والدوافع لتغييرها وتحديد مسار رحلتها، لكن لكسر الصمت، اندفع الكاتب بحسن نية إلى بناء حوارات خطابية ذات طابع وعظي، خرجت ضعيفة مفككة مصطنعة بقيمها وبأخلاقها المتمركزة حول الفردانية في مجتمع أعمى.
في نهاية كل موسم، وبعد إطالات كثيرة، يتركنا الكاتب مع غموض كبير. الغموض الأول هو انطلاق بابافوس في رحلة لاسترجاع هانيوا من أخيه إيدوفوس، وهي رحلة نحو الماضي. الرحلة الثانية كانت رحلة الجميع إلى المستقبل. كلمة الجميع هي المشكلة بالتحديد في هذا العرض، لكل شخصية عالمها الخاص ورحلتها وعقباتها وتطورها. لم نرها تتفاعل بموجب الدراما التصاعدية الحاصلة، ولم نلاحظها كتطور في ردود فعل الشخصيات. شخصية كهانيوا لم تتطور رغم العقبات الهائلة التي واجهتها. أيضاً، شخصيات كثيرة ظهرت واختفت فقط لقلب الأحداث، ما تركنا أمام تساؤلات حول مستوى ورشة الكتابة التي عملت مع ستيفن نايت على النص.
مع الجزء الثاني للعمل الذي عرض عام 2021، تتجلى الصوابية السياسية بأكثر صورها فجاجةً، بحجة كسب جمهور متنوع وإرضاء سياسات عالمية، ما كان له مساهمة هائلة بتدمير البناء الدرامي للشخصيات وتمييع الذروة. هانيوا تتزوج رين (إيدين إيبستين)، فتاة مبصرة التقت فيها خلال احتجازها لدى عمها إيدوفوس. سيبيث تنجب طفل من ابن اختها كوفون، يُعتقد أنه يحمل نبوءة البصر. ماغرا تتزوج رجلا آخر غير بابافوس. يظهر آكلو لحوم بشر لتبرير التخلص من إحدى الشخصيات وتحويلها إلى ملاك فجأة، كله كان مقحماً بفجاجة.
يملك العمل لغة بصرية مبهرة يصعب تجاهلها، تتمثل بلقطات عريضة أخّاذة، وتناسق بالمشاهد (Mise-en-Scene)، المشاهد الصامتة والترقب هي المرتكز الحسي الأمتن. الكاميرا تتحول إلى نسخة جديدة من كرسي الاعتراف عند النظر في عينين لا ترانا، والإحساس الذي يصيبنا من قلق وتعالٍ وكأننا ننظر في روح الشخصية مباشرة، طغيان التمثيل الاستعراضي لجيسون موموا والجانب التقني/البصري مع فكرة القصة كانت، وللأسف، أوراقه الرابحة الوحيدة.