"حارس أرشيف غزة"، و"حارس تاريخ غزة البصري"، و"حارس صور غزة"... هذه جميعها ألقاب للفلسطيني الستّيني مروان ترزي، الذي استشهد برفقة زوجته وعدد من أفراد أسرته بالقصف الإسرائيلي على كنيسة بورفيريوس للروم الأرثوذكس في غزة، قبل أيام، وانتشل من بين شهداء المجزرة الجديدة من تحت أنقاضها.
كانت عائلة مروان ترزي قد توّلت في ثمانينيّات القرن الماضي إدارة الاستديو الأول في تاريخ غزة، وهو استديو "صور كيغام"، الذي تأسس في مطلع أربعينيات القرن الماضي، ما أهّله لإنقاذ وأرشفة جزء من هذه الصور، والنيغاتيف الخاصة بأخرى، وكان يضعها في صناديق كرتونية وأكياس بلاستيكية.
ظهر ترزي في فيلم وثائقي تلفزيوني من إنتاج وثائقية دي دبليو الألمانية، قبل ثلاث سنوات، بعنوان "ذاكرة غزة الفوتوغرافية". من أحد صناديقه، أخرج العديد من الصور النادرة، من بينها صورة الرئيس المصري الراحل أنور السادات حين كان ضابطاً في غزة، وأخرى لمحمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصر العربية، وأكثر من صورة للثائر تشي غيفارا حين زار غزة في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ومحطة القطارات التي كانت تصل قطاع غزة بمصر، مشدداً على أن هذه الصور هي كنز من تاريخ غزة، فمُسوداتها (النيغاتيف) ونسخها تعكس ثقافة سكّان القطاع وهويتهم، رغم أن ما نجا من مجمل ما صوّره كيغام يعدّ قليلاً، فالكثير من الصور لم يكن مُخزّناً بحرص، وتعرض لضرر كبير بسبب الرطوبة، علاوة على أن الكثير من هذه الصور لم يتم تحميضها، وبعضها غير موثق الحدث والتاريخ، لكن هناك صورا تُظهر فتيات بزي عصريّ في محطة إذاعة، وأخرى لبنك شهير قبل عقود، وبائع للتمر الهندي، وقوارب في ميناء غزة.
وكيغام جيغاليان، صاحب أول استديو تصوير في غزة، من مواليد أرمينيا عام 1915، وفرّ طفلاً برفقة والدته من المذبحة الأرمنية إلى سورية، وبعدها استقر في القدس. وفي مطلع أربعينيات القرن الماضي، انتقل إلى غزة، حيث بدأ يعمل مُصوّراً.
يشير ترزي في فيلم "ذاكرة غزة الفوتوغرافية"، إلى أن كيغام كافح وناضل حتى افتتح الاستديو الذي حمل اسمه عام 1947، وبعد ما حصل عام 1948 شعر بأن ما حدث ما عائلته يتكرر، وقرّر توثيق ما يحدث في غزة مع الموجات الكبيرة من اللاجئين إليها.
وحاول ترزي الحفاظ على هذه المواد البصرية لكونها تقدّم وصفاً مفصّلاً لتاريخ غزة الغنيّ والمضطرب، إذ التقط كيغام صوراً مؤثرة عام النكبة الذي شهد استقبال عشرات آلاف اللاجئين جرّاء تهجير العصابات الصهيونية لهم من ديارهم، وبالتالي تأسيس مخيّمات اللاجئين. بعد النكبة الفلسطينية، تهجر كثير من أهل فلسطين إلى غزة، وتم بداية تمركز المهجّرين على شاطئها وتأسس المخيّم الأول الذي حمل اسم مخيم الشاطئ. وقد وثق كيغام بالصور عملية التهجير ونصب الخيام. تحوّلت الخيام، في ما بعد، إلى زينكو، ثم إلى إسبست، كما أنه صوّر اصطفاف اللاجئين في طوابير الطعام، وعندما احتلت إسرائيل غزة لأشهر استطاع توثيق انسحاب الجيش الإسرائيلي.
وأظهر ترزي صوراً نادرة من أرشيف كيغام الذي بحوزته، لنرى كيف كانت غزة مدينة متكاملة، مُستعرضاً صوراً لمبانٍ تاريخية لم تعد موجودة عند تصوير الفيلم، مثل مبنى السرايا الذي تعرض للهدم، وكذلك قصر الحاكم المصري الذي لقي المصير نفسه، لكن هذه الصور ستبقى إرثاً للأجيال القادمة، والآن حتى الكنيسة المجاورة لمنزل ترزي تم قصفها قبل أيّام، ولا أحد يعرف مصير منزله ومصير الكنز.
عام 1956، صوّر كيغام مجازر خان يونس ودخول الدبابات الإسرائيلية التي احتلت غزّة لأشهر، كما وثق فوتوغرافيّاً لانسحابها، ولم يصور أحد تلك الصور غيره، لذا فهي صور نادرة.
عندما بدأت مصر في عهد جمال عبد الناصر بالعمل على تمصير البضائع عام 1957، وأقفل الباب أمام الاستيراد، أصبحت غزة سوقاً حرة، فكانت البضائع تأتيها مباشرة عبر مينائها، وبدأ كيغام يستورد أدوات التصوير، وكان المستورد الرئيسي لها، وعندما توسع عمله بدأ يستورد كاميرات للمستخدم العادي.
كانت السنوات، حسب ترزي، من عام 1964 ولغاية عام 1967، حافلة بالأحداث، فقد استطاع أحمد الشقيري (أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً)، في تلك الفترة أن يكوّن جيشاً كاملاً بدباباته وعتاده وجنوده. وقد وثّقت الصور والمسودات لجيش التحرير، لكن بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل لغزّة تغيّرت الأحوال، لكن الصور بقيت شاهدة على التاريخ.
لا يضم أرشيف ترزي توثيق كيغام لزيارة تشي غيفارا لغزّة وحسب، بل ثمة توثيق فوتوغرافي لزيارات شخصيات أخرى، من بينها الممثل الهوليوودي الشهير، وقتذاك، يول براينر، لتسليط الضوء على محنة اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة، ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو.
وواصل مروان ترزي سرد الحكاية في الفيلم، بقوله: "في الستينيات كان لي أخ اسمه موريس، وكان يهوى التصوير، وكان متدرباً عند كيغام، وبعد ذلك نشأت علاقة مودة بينهما، واعتبره كيغام ابناً له، فعلمه كل شيء حتى تشرّب الصنعة بأعلى جودة، وأصبح يعمل لديه، وكنت أذهب لأساعده في تنشيف الصور". يتابع: "بعد وفاة كيغام، تسلّم شقيقي موريس الاستديو عام 1986، وبات الاستديو يحمل اسمه، واشتهر كسابقه، قبل أن تغلقه العائلة قبل قرابة 15 عاماً من اليوم".
وفي الجزء الثالث من سلسلة الوثائقيات "مصوّرو فلسطين"، للمخرجة الفلسطينية مروة جبارة الطيبي، وإنتاج "الجزيرة الوثائقية"، عام 2021، استعرض ترزي مع الوصف صوراً أخرى، بينها: تمثال الجندي المجهول في عام 1957، وقبلها صور الاقتحام ومن ثم الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 1956، ومجازر خان يونس في العام نفسه، ولم يوثقها غيره.
وكان لافتاً في الفيلم الذي ظهر فيه ابن كيغام وحفيده من القاهرة، توثيقه في الصور التي بحوزة ترزي للجانب الفني والثقافي، حيث الفرق الأجنبية التي كانت تحيي حفلات راقصة في نهاية خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي، وكذلك زيارات العديد من الفنانين إلى القطاع كعبد الحليم حافظ، وصباح، ومحمد عبد المطلب، وشادية، ونجاة، وغيرهم.
ولفتت المخرجة مروة جبارة الطيبي في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أهمية أرشيف كيغام، الذي كان يملكه مروان ترزي، والذي لولاه ما أنجزت فيلمها. وقالت: "حين بدأت الإعداد للفيلم، أخذت أبحث عن أرشيف كيغام في غزة بمساعدة معدّة ومنسقة الفيلم، ومن مهتمين وباحثين توصلنا إلى أن موريس ترزي كان يعمل معه، وحين توجهنا لمنزل العائلة تبيّن أن موريس رحل، لكنه ترك أرشيف كيغام لدى مروان، ومن هنا توطدت علاقة بيننا".
وصف ترزي الصور التي لديه من أرشيف كيغام، في الفيلمين، بـ"الكنز الذي يجب الحفاظ عليه"، وهو الوصف الذي شاركته إياه المخرجة الطيبي في حديثها لـ"العربي الجديد".
رحل ترزي تحت ركام الكنيسة التي كان يصلّي بها هو وأفراد أسرته كثيراً، وخالها ملجأ آمناً له من قصف طائرات الاحتلال، رحل ولا يزال مصير الكنز مجهولاً كحال مصير غزّة كلها.