محمد عبد الوهاب... عندما يأتي المساء

05 مارس 2023
جاءت ألحانه الأولى متأثرة بالنمط الذي أرساه أبو العلا محمد (فرانس برس)
+ الخط -

لم يكن مستغرباً أن يصبح محمد عبد الوهاب أحد أكبر حاملي مسؤولية النهوض بالقصيدة العربية غناء وتلحيناً، إذ بدأت حياته الفنية برعاية أمير الشعراء أحمد شوقي، فقصرت مسافات، وتذلّلت عقبات، ولم ينتصف عقد العشرينيات إلا وعبد الوهاب متربع على عرش الغناء الفصيح، ليبدأ مسيرته الكبيرة مع القصيدة. تلك المسيرة التي صاغت الصورة العامة لتلحين الشعر العمودي وغنائه في القرن العشرين.

خلال حياته الطويلة، لحّن عبد الوهاب، لنفسه أو لغيره من المطربين، أكثر من 80 عملاً من قالب القصيدة، منها قرابة 17 عملاً من نظم أحمد شوقي، وتمثل هذه الشوقيات القاعدة الراسخة والأساس المتين اللذين بنى عليهما عبد الوهاب مجده مع الشعر الفصيح. ويتأكد هذا المعنى إذا انتبهنا إلى أن عشر قصائد منها قد أنشدها عبد الوهاب في السنوات العشر الأولى لبزوغ نجمه، أي بين عامي 1923 و1933، وبنحو قصيدة كل عام في المتوسط.

إجمالاً، جاءت هذه الألحان الأولى متأثرة بالنمط الذي أرساه الشيخ أبو العلا محمد. ورغم اشتمالها على مبشرات بمذهب عبد الوهاب التجديدي، إلا أن المستمع يلمس فيها حذراً واضحاً، متمثلاً في التزام إيقاع الواحدة الكبيرة، والاستهلال الغنائي الهادئ، والتصعيد المتدرج من دون قفزات.

لكن "الحذر" لا يفسّر تكرار استخدام مقام البياتي، فبين الشوقيات العشر الأولى التي لحنها عبد الوهاب وغنّاها جاءت ست قصائد على مقام البياتي، هي: "قلب بوادي الحمى"، و"خدعوها بقولهم حسناء"، و"أنا أنطونيو وأنطونيو أنا"، و"ردت الروح على المضنى معك"، و"يا جارة الوادي"، و"يا ناعماً رقدت جفونه".

لكنه عبد الوهاب، فلا التكرار المقامي، ولا الالتزام الإيقاعي، منعا قريحته من التفجر بجمل غنائية غير مسبوقة، ليس في ما وصلنا من طرب عصر النهضة، وليس في ما جاد به مهندس القصيدة الأول أبو العلا محمد. اختار عبد الوهاب لزوم ما لا يلزم: نصوص نظمها أكبر شاعر كلاسيكي في العصر الحديث، ومقام هو الأرسخ والأشهر في موسيقى العرب وغنائهم، وإيقاع صار التمسك به عند تلحين القصائد أشبه بقاعدة لا تكاد تتخلف، وكأنه يبلغ رسالته التجديدية إلى الجماهير التي غلب عليها - حينها - التيار المحافظ، المتوجس من المذاهب الوافدة، والقلق من إزالة الفواصل بين الغناء المسرحي المزدهر وبين الغناء الكلاسيكي في قوالبه الأصلية، فجاءت كل قصيدة من قصائده في هذه الفترة آية من آيات الفن الخالد، المتجدد بلا تفريط، والمحافظ بلا تقليد، في معادلة بالغة الصعوبة، دقيقة الموازين.

لقد جعل عبد الوهاب من شوقياته البياتية برهاناً ساطعاً على عبقريته التلحينية والغنائية، وبدلاً من التنويع المقامي السهل المبذول، اختار الحفر العميق في المقام، واستخرج منه بدائع الصنائع، وفرائد اللآلئ.

وتمثيلاً لا حصراً، يمكن أن نشير إلى قصيدة "رُدت الروح"؛ فبعد استهلال يبدو تقليدياً، يعيد عبد الوهاب عبارة الاستهلال، ويغني لفظة "الروح" بلحن طازج لا نظير له ولا شبيه ولا قريب في كل ما أدركته التسجيلات، منذ أن عرف الناس الأسطوانة، إلى تلك اللحظة الإبداعية الوهابية.

وفي نفس القصيدة، جملة أخرى غير مسبوقة، هي: "فشكا الحرقة مما استودعك"، إذ هي "مولود جديد" وخلق على غير مثال من غناء العرب، ومن اللطيف أن عبد الوهاب يعود بعدها سريعاً إلى غناء تقليدي يشبه أداء المشايخ، وقفلات قراء القرآن من مقام الراست، وذلك في البيت الخامس: "يا نعيمي وعذابي في الهوى.. بعذولي في الهوى ما جمعك"، وكأنه يتحوط لاعتراض المعترضين، أو كأنه يؤنسهم بما اعتادوه ليتقبلوا منه ما لم يسمعوه.

وهذه القفلة المشيخية بمقام الراست كررها عبد الوهاب، بما يصل إلى درجة التطابق، في لحنه الخالد لقصيدة "يا جارة الوادي"، وتحديداً في البيت الخامس أيضاً: "لم أدر ما طيب العناق على الهوى.. حتى ترفق ساعدي فطواك". ويصعب تفسير هذا التكرار بالسهو أو النسيان، لأن عبد الوهاب لحن القصيدتين وغناهما على أسطوانات في نفس العام (1928)، ما يسمح للمستمع أن يرجّح إعجاب عبد الوهاب بجملته اللحنية هذه إلى حد تعمد تكرارها متطابقة، في البيت الخامس من القصيدتين، بغض النظر عن ترتيب صدورهما.

ولا ريب أن "يا جارة الوادي" أهم تلك الشوقيات التي لحّنها عبد الوهاب وغناها في تلك السنوات التأسيسية، فقد حازت من الشهرة والانتشار ما لم تحزه أي من قصائد تلك الفترة، وهي من تلك القصائد التي رضي عنها المحافظون والمجددون، ومثلت دوماً بخامتها وقفلاتها عملاً جاذباً للمطربين وأصحاب القدرة الصوتية والغنائية.

وقد كان هذا اللحن الوهابي صالحاً لغناء "حداثي" بتوزيع جديد كما قدمته فيروز والرحابنة، أو بغناء طربي يزدحم بالتصرفات والإضافات واستعراض القدرة كما قدمته نور الهدى. وكثيراً ما يحتدم نقاش المستمعين في المفاضلة بين أداء فيروز ونور الهدى، والحقيقة أننا أمام أسلوبين متباينين، وطريقين مختلفين، لكل منهما ميزات وعيوب، تختلف باختلاف طرائق النظر والتحليل. ويبقى صوت عبد الوهاب وأداؤه في هذه القصيدة قمة لم تدرك وعقبة لم تقتحم.

قبل أن ينتصف العقد الثالث من القرن العشرين، كان عبد الوهاب قد قطع شوطاً كبيراً في مسيرته التحديثية، وكانت الجماهير تنظر إليه باعتباره زعيم التجديد الموسيقي والغنائي في مصر وبلاد العرب. أصبح أكثر جرأة في إظهار مذهبه الفني، لا سيما مع ما تقدمه أم كلثوم من منولوجات محمد القصبجي المتطورة والمعقدة.

وفي عام 1933، قدّم عبد الوهاب من شعر بشارة الخوري، قصيدة "جفنه علم الغزل". أسفر موسيقار الجيل عن نواياه، استخدم إيقاع الرومبا، وآلة المراكاس. وفي عام 1935، قدم "سهرت منه الليالي" من كلمات حسين أحمد شوقي، وفيها استخدم إيقاع التانغو، وآلة الأكورديون. وفي عام 1938 قدم "عندما يأتي المساء" من شعر محمود أبو الوفا، وأيضاً استخدم إيقاع الرومبا، وآلة المراكاس. بدا هذا العام وكأنه نهاية مرحلة، أنجز فيها عبد الوهاب قدراً كبيراً من مسيرته التي غيّرت وجه الحياة الموسيقية في مصر.

بين عامي 1939 و1944 قدّم محمد عبد الوهاب نحو عشر قصائد، ولأن الناس اعتادوا على مفاجآته، زاد حرصه على أن تكون المفاجأة أكبر من التوقعات. في هذه السنوات الخمس، بلغ عبد الوهاب ذروة مسيرته في تلحين القصيدة العربية، فقد استجمع كل ما أوتي من خبرة، وتمرس، واستيعاب لتراث السابقين، ورغبة في تجاوز المعاصرين، وإصرار على زعامة "التجديد" ليتجلى كل هذا في أعمال ثلاثة، هي من مفاخر القصيدة العربية المغناة في القرن العشرين: الجندول، للشاعر علي محمود طه، عام 1939، والكرنك، للشاعر أحمد فتحي، عام 1941، وكليوباترا، لعلي محمود طه أيضاً، عام 1944.

اتسمت هذه النصوص بطول نسبي، فالجندول 21 بيتاً، والكرنك 20 بيتاً، وكليوباترا 17 بيتاً، وقد سمح هذا الطول لعبد الوهاب بإظهار قدرته البنائية، وتفكيره الموسيقي بالغ الأناقة والإتقان، والمختلف جذرياً مع طريقة بناء القصيدة عند رياض السنباطي. أدى عبد الوهاب كل قصيدة في زمن يقارب 25 دقيقة، وهي مدة طويلة جداً في تسجيلات الاستوديو.. الشعر فصيح، لكنها فصحى من نوع آخر غير فصحى شوقي بك، المقدمات الموسيقية أطول، والجمل التلحينية تنمّ عن تفكير عميق، وتأمّل للمعنى يصل إلى درجة المعايشة، وتنوع يكاد يأخذ في اعتباره اختلاف أذواق الجماهير وتنوع مشاربها الثقافية والفنية.

بهذه القصائد، أكمل عبد الوهاب بناء صرحه الضخم من الغناء الفصيح، وتلحين الشعر العربي، ذلك الصرح الذي استغرق تشييده عشرين عاماً من العمل المتواصل الدؤوب، والتفكير الموسيقي العميق.

وصحيح أنه استمر في تلحين القصائد وغنائها، وأنتج منها عدداً من الروائع الباقية، ومن أهمها: أخي جاوز الظالمون المدى، ومضناك جفاه مرقده، والنهر الخالد، وغيرها.. لكن كل هذه الأعمال - رغم أهميتها وجمالها - ليست من الأسس ولا الأعمدة ولا الحوائط الحاملة في البناء الوهابي الضخم. وكذلك ألحانه لغيره من المطربين والمطربات، فالرجل آثر نفسه بأعظم ألحانه، وصنع مجده المتعاظم، وباسم هذا المجد قبلت الجماهير في الستينيات والسبعينيات وما بعدها كل ألحانه، بغض النظر عن قيمتها الفنية المجردة.

المساهمون