محمد عبد الوهاب... الموسيقار في أغاني الآخرين

08 مايو 2022
عبد الوهاب في بورتريه لعصام عزوز (صفحة الفنان على فيسبوك)
+ الخط -

"جايين الدنيا ما نعرف ليه/ ولا رايحين فين ولا عايزين إيه/ مشاوير مرسومه لخطاوينا/ نمشيها في غربة ليالنا/ يوم تفرحنا ويوم تجرحنا/ وإحنا ولا إحنا عارفين ليه/ وزي ما جينا جينا/ ومش بـ إدينا جينا"...

بقي عبد الوهاب وحيداً، وكانت هذه الأغنية الطويلة آخر آثار العصر الغنائي العربي المهول، وآخر انتصارات محمد عبد الوهاب. رحل عبد الحليم حافظ عام 1977، ثم رحل كاتب الكلمات مرسي جميل عزيز في عام 1980، قبل أن تبصر أغنية "من غير ليه" النور عام 1989، بعد إضافة الفرقة الموسيقية إلى تسجيل سابق بصوت عبد الوهاب.

حققت الأغنية وقعاً كبيراً أمام الأغنية الحديثة، التي انتشرت في الساحة الفنية، والمدعومة بالبث الإذاعي والتلفزيوني، والمكرسة من خلال برنامج استديو الفن، الذي بدأ بثه في تلفزيون لبنان عام 1974. بعد عامين من انتشار الأغنية، وفي الرابع من شهر مايو/أيار عام 1991، رحل محمد عبد الوهاب، بعد حياة امتدت على طول القرن العشرين تقريباً، عاصر خلالها أساطير الزمن الجميل من موسيقيين، وأدباء، وممثلين صاغوا ملاذ شرودنا، إذ نُشيحُ النظر بعين من شجن.

مدعوماً من الشاعر أحمد شوقي، أقبل محمد عبد الوهاب على المشهد الفني. شوقي الذي تمثّلت به يد القدر، وامتدت لتمهد طريق الموهبة الفذة، وتشذب ذوق الفتى المقبل على الحياة، وتغرس فيه الروح العالية للفنان، الذي سيكون شاهداً على القرن العشرين، ومؤثراً في شخصية الغناء العربي، فقدّمته لمثقفي عصره من أدباء ورجال دولة، أمثال طه حسين وسعد زغلول وعباس محمود العقاد، وغيرهم ممن صنعوا تاريخ مصر.

على مدى حياته الفنية، فاض عبد الوهاب بقائمة غنية من الأعمال، تنوعت من حيث المدارس والطرق، فمنها القصائد على نهج الرعيل القديم في نهايات القرن التاسع عشر، كقصيدة "أتيت فألفيتها ساهرة"، والقصائد التعبيرية التي استحدثها عبد الوهاب بما يتناسب والواقع المتسارع، نحو التجديد، مثل "الجندول"، ومنها الأغاني القصيرة، مثل "خايف أقول اللي في قلبي"، والمواويل المسبوكة والمُعدّة لتبقى صامدة عصيةً أمام الزمن، مثل موال "أمانة يا ليل"، وقدم أيضاً الأناشيد والأدوار والمونولوجات.

كان محمد عبد الوهاب من أكثر فناني عصره تنوعاً من ناحية الإنتاج الفني وغزارته، وأيضاً من ناحية وعيه للواقع واللعب على أوتاره، بما يمليه عليه استشرافه الذكي للمستقبل. أحب عبد الوهاب الحياة، وآمن بالغد القادم، وناضل لكي يبقى في برجه العاجي الذي أهداه إياه أحمد شوقي، خاصة أن الساحة الغنائية كانت مشغولة بأم كلثوم، صاحبة الصوت الجبار، ومن ورائها المخضرمون: زكريا أحمد بأسلوبه التطريبي الأصيل، ومحمد القصبجي المجدد الرومانسي، ورياض السنباطي الجزل الرصين صاحب المسلك الخاص.

لم يكن أمام عبد الوهاب، بوجود ماكينة التلحين هذه من جهة، وجبروت صوت أم كلثوم من جهة أخرى، إلا أن يكتفي بذاته، فيكون هو الملحن والمغني، وأن يبقى يقظاً لكل جديد، يعتنقه إكسيراً للبقاء في القمة التي ما تعود سواها.

حملت المادة السينمائية من الجاذبية ما يرضي شغف عبد الوهاب بالظهور والانتشار، فوجد فيها ضالته التي قدم فيها أعماله وظهر فيها ممثلاً أيضاً، الأمر الذي كان صعباً على منافسته أم كلثوم، بعد أن أثبتت لها التجربة بُعدَها كل البُعد عن النجاح كممثلة، وبذلك استفرد عبد الوهاب في هذه المساحة، لكن ليس طويلاً، ففي الكواليس ما يخبئه القدر؛ ملحن ومغنّ ومجدد، لا بل وعازف عود قلّ مثيله؛ إنه فريد الأطرش، الذي عكس الشائع سيصبح الصديق اللدود لعبد الوهاب.

أبدع عبد الوهاب في ابتكار الوسائل لكي يبقى حاضراً على ألسنة الناس، فمَن الذي يتبادر له أن يُدخِل الفرقة الموسيقية إلى قاعات السينما، لكي يؤدي أغانيه في عرض حيّ بأثناء استراحة الجمهور من مشاهدة أفلامه؟ طموح عبد الوهاب قاده ليصنع مساحاته الخاصّة غير المتوقعة، التي لا تلبث أن تصبح تقليداً ينتهجه الفنانون بعده.

أثّر ظهور الأسطوانات في بداية القرن الماضي بعقلية الفنان، إذ أشركت الموسيقى في التفاصيل اليومية المنزلية، وكثفت مع السينما من التأثير الشخصي للفنان على جمهوره، من حيث الشكل الخارجي، والمضمون الصوتي أيضاً. اعتاد عبد الوهاب تسجيل أعماله الموسيقية في شركة "بيضافون"، المملوكة من قبل صديقه إيليا بيضا. هذه الشركة التي ظهرت تقريباً في عام 1906، وانتشرت أسطواناتها في كل مكان، حاملة أصوات أساطين الغناء حينها. لم تكن "بيضافون" الشركة الوحيدة، بل كان هناك منافسون كثر، كشركة "أوديون" التي تفردت فيها أم كلثوم. اشترى عبد الوهاب شركة "بيضافون"، وحوّلها إلى "كايروفون".

غيرت هذه الخطوة من تموضع عبد الوهاب في رقعة الساحة الفنية، وجعلته أقرب للمنتج الموسيقي؛ فهو الآن مغنّ، وملحن تتهافت الأصوات على أعماله، وصاحب شركة أسطوانات معروفة، تنشر أعمال أهم فنانين العصر، أمثال فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وأم كلثوم أيضاً التي انضمت مضطرةً إلى القائمة، بعد أن أقفلت شركة "أوديون" بسبب الحرب العالمية الثانية.

بذلك، لم يعد عبد الوهاب مجرد ندّ في ميدان الفن، بل بات مطلعاً على الأعمال قُبَيل أن تنشر، يرى الواقع الفني بعين أكثر شمولية، كما صار يحدد سعر بيع أسطوانات الفنانين الآخرين، واحتلت أم كلثوم صدارة الأسعار. عند ظهور الإذاعة، كتب عبد الوهاب على الأسطوانات: "ممنوع إذاعة هذه الأسطوانة بالراديو"، محتكراً بذلك حقوق النشر.

لاحقاً، وقُبَيل حركة التأميم، باع فرع شركة "كايروفون" في مصر، وحافظ على فرع لبنان، فنجا من خسارات غيره ممن طاولهم التأميم.  تعامل عبد الوهاب مع ظهور الإذاعة أيضاً بخصوصية وذكاء، وتنبه إلى معنى البث الذي يَنقل أثيرياً صوت الفنان عابراً مسافات شاسعة.

غيّر هذا الواقع خصائص أغانيه، إذ تعمّد تقديم أغنية متنوعة بذاتها، وممتعة وأحياناً راقصة. تجسدت تأثيرات عبد الوهاب في مطربي عصره، الذين لحن لهم؛ فتعامل مع كثيرين، منهم أم كلثوم وفيروز، ولكن عبد الحليم حافظ كان صياغة عبد الوهاب للأغنية الشبابية، إذ نَحتَ عاطفة الجيل الجديد، وحدد شكلاً للأغنية المتداولة، اعتمده الجيل القادم من الملحنين لفترة طويلة.

ما الجسر الذي نقل الأغنية ما بين جيل الشيخ سلامة حجازي وجيل وليد توفيق؟ سؤال تكمن إجابته في بصمات لمحمد عبد الوهاب، التي يحملها الواقع الفني الذي كنا نعيشه لوقت ليس بعيد، نهايات القرن العشرين؛ القرن الذي خُلطَت فيه مقادير الوجبات الموسيقية، التي تنضج اليوم على نار الحداثة والتقنيات، في وقت تتسارع فيه وتيرة تطور المنصات وأدوات التقديم، حتى لا نكاد نجد مكاناً لا نكون فيه محاصرين ومجبرين على الاستماع إلى الأصوات الجديدة من نجوم عصرنا الحالي، الذي يبدأ فيه مشوار الفنان من صالات بناء الأجسام وصالونات التجميل، مستنيراً بحكمة صناع النجوم ومديري الأعمال.

وهكذا، تتوالى الأولويات لتأتي شؤون التدريبات الموسيقية وتهذيب الصوت والثقافة السمعية. قامات، تقدّر تكلفة ظهور أحدهم على المسرح -لأقل من ساعة- بآلاف الدولارات، في الوقت الذي يبرعون فيه بعلوم التسويق، وطرق الانتشار والشهرة، ويجهلون أصغر مسلّمات التنفس وإخراج الصوت ومساحاته. ويبقى تساؤل آخر: هل لا يزال عبد الوهاب موسيقاراً للأجيال الإليكتروموسيقية؟

المساهمون