تقف محطة الفضاء الدولية عند مفترق طرق بعد الإعلان الروسي أخيراً الانسحاب من المحطة التي تعمل منذ عقود. ويأتي التهديد بمغادرة المحطة بعد عام 2024، الذي أصدره الرئيس المعين حديثا لوكالة الفضاء الروسية (روسكوزموس) يوري بوريسوف، في اجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الوقت الذي تخطط فيه ناسا لتكملة تجارية للمحطة في نهاية العقد الحالي. وقال بوريسوف: "اتخذنا قرار مغادرة المحطة بعد عام 2024. أعتقد أنه بحلول ذلك الوقت سنبدأ في تشكيل محطة مدارية روسية"، منهياً بذلك الشراكة التي استمرت 24 عاماً بين موسكو وواشنطن، لكنه أشار إلى أن روسيا ستفي بجميع التزاماتها التشغيلية الحالية قبل المغادرة. يحصل كل ذلك بينما تقوم الصين من جهتها، بتجميع مختبرها الفضائي الخاص.
الإعلان الروسي يبدو أنه فاجأ مديرة عمليات محطة الفضاء روبين جاتينز، التي قالت مباشرة بعد تصريح بوريسوف إن المحطة لم تتلق أي خطاب رسمي من روسيا بشأن خطط الانسحاب. وأشارت إلى أن ناسا وروسكوزموس تضعان خططاً للتعاون بعد نهاية عمل محطة الفضاء الدولية التي كان من المفترض أن تستمر في التحليق في الفضاء حتى عام 2030.
وليدة الحرب الباردة
جرى إطلاق النسخة الأولى من المحطة، التي ولدت مع نهاية الحرب الباردة، في عام 1998، وتديرها وكالة ناسا ووكالة الفضاء الروسية، ووكالة الفضاء الأوروبية وكندا واليابان. وتتكون المحطة من ما يقرب من 592 ألفاً و453 كيلوغراماً من الأجهزة التي تدور حول 260 ميلاً فوق الأرض. وتضم المحطة الآن سبعة خبراء: ثلاثة أميركيين وثلاثة روس وواحداً من فرنسا، ويتم الحفاظ على موقعها في المدار من خلال الدعم الذي توفره وحدة روسية دافعة.
تتشكل المحطة من 17 وحدة صالحة للسكن: ستٌّ منها مقدمة من روسيا، وثمانٍ من الولايات المتحدة، واثنتان من اليابان، وواحدة من وكالة الفضاء الأوروبية. تعمل الوحدات كمختبرات ومهاجع للطاقم، حيث تؤدي القطاعات الأميركية والروسية ثلاث وظائف إضافية مهمة. الولايات المتحدة مسؤولة عن صيانة وتشغيل أجنحة الألواح الشمسية التي تزود المحطة بالطاقة، وكذلك تشغيل الجيروسكوبات التي مهمتها الحفاظ على استقرار محطة الفضاء الدولية.
أما الجزء الروسي من المحطة فمسؤول عن تعزيز مدار المحطة بشكل دوري مع رشقات نارية من محركات مركبة شحن بروغرس المرفقة، التي تمنع السحب الجوي الخافت ــ الموجود حتى على ارتفاع 402 كم الذي تطير فيه المحطة ــ من السحب المحطة من السماء. ومن دون تعاون البلدين، سيكون مصير المحطة غامضاً. ولا يمكن بالتالي الحفاظ على الارتفاع من دون التعزيزات المنتظمة من سفن الفضاء الروسية، التي تطلق معززاتها لدفع المحطة أعلى قليلاً حوالي مرة واحدة كل شهر.
تعد المحطة موطناً لسلسلة من المشاريع البحثية التي لا يمكن إجراؤها في أي مكان آخر. على سبيل المثال، تُستخدم لإجراء تجارب حول كيفية تأثير انعدام الوزن على جسم الإنسان (على المدى الطويل) وهي المكان الوحيد لاختبار التقنيات التي ستأخذ البشرية بعيدا في الفضاء.
لدى روسيا خطط لبناء محطتها الفضائية الخاصة بها المسماة ROSS، والتي تأمل موسكو أن تتمكن من الاستقرار في مدارها حول الأرض بحلول عام 2028. في اليوم التالي لإعلان بوريسوف، نشر موقع وكالة الفضاء الاتحادية الروسية على الإنترنت مقابلة مع فلاديمير سولوفيوف، مدير رحلة الجزء الروسي من محطة الفضاء الدولية، قال فيها إن بلاده بحاجة إلى مواصلة تشغيل محطة الفضاء الدولية إلى أن تنهي إنشاء محطتها الخاصة. ولفت إلى أن على بلاده أن تأخذ في الاعتبار أنه إذا أوقفت الرحلات الجوية المعتادة لعدة سنوات، فسيكون من الصعب للغاية استعادة ما تم تحقيقه.
الحرب الساخنة الأوكرانية
تماماً كما دفعت نهاية الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي البلدين إلى التعاون ومن ثم إنشاء المحطة، فإن الحرب الساخنة الحالية بين الغريمين التقليديين في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، ربما تكون أحد أسباب انهيار الشراكة التي استمرت أكثر من عقدين من الزمن. في وقت سابق من شهر يوليو/تموز المنتهي، وبّخت وكالة ناسا الأميركية ثلاثة رواد فضاء روس على متن المحطة، لاحتفالهم بالاستيلاء الروسي على شرق أوكرانيا، قالت ناسا في بيان إنها "توبخ بشدة رواد الفضاء الروس لاستخدامهم محطة الفضاء الدولية لأغراض سياسية لدعم الحرب ضد أوكرانيا، والتي تتعارض بشكل أساسي مع الوظيفة الأساسية للمحطة". وفي يونيو/حزيران الماضي، كان على المحطة الدولية أن تعدّل مدارها لتجنب الاصطدام بالحطام الناتج عن اختبار سلاح روسي مضاد للأقمار الصناعية، الذي تناثر في مدار أرضي منخفض مع آلاف القطع من الشظايا.
لكن الحرب الروسية - الأوكرانية لم تكن الدافع الرئيسي لروسيا للخروج من المحطة (على الأرجح). فعلى مدار سنوات الشراكة بين القطبين، دخلا في تشاحنات ومنازعات متفاوتة الحدة. ففي عام 2014، أعلنت روسيا أنها ستطرد ناسا من محطة الفضاء الدولية بحلول عام 2020 رداً على العقوبات الأميركية على موسكو، بسبب غزوها شبه جزيرة القرم، لكنها لم تنفذ تهديدها. والعام الماضي، زعم مسؤول في محطة الفضاء الروسية، أن أحد رواد الفضاء التابعين لوكالة ناسا على متن المحطة، أصيب بانهيار عصبي وحفر ثقوباً في مركبة الفضاء سويوز في عام 2018، وهي الاتهامات التي نفتها ناسا.
ماذا بعد الانسحاب؟
يمكن أن يتخذ الانسحاب الروسي من المحطة الفضائية أشكالاً مختلفة، كأن تنفذ محطة الفضاء الروسية تهديداتها السابقة بإزالة وحداتها من المحطة الدولية، وبعض هذه الوحدات أساسي لدعم الحياة في المختبر الدولي والحفاظ على المحطة في مدارها حول الأرض، ومن أجل تجميع معملها المداري بطريقة أو بأخرى، إذ صُممت المحطة الدولية في الأصل بحيث تتحكم كل من وكالة الفضاء الروسية ووكالة الفضاء الأميركية في الجوانب الحاسمة لعملياتها.
في الوقت نفسه، ستتأثر وكالة الفضاء الأميركية بشدة بهذا الانسحاب، إذ سيتسبب في زيادة تكاليف صيانة وتشغيل الوكالة، التي جرى تحديد ميزانيتها بالفعل بمبلغ 1.4 مليار دولار سنوياً. وتستفيد ناسا من المحطة الدولية من خلال مختبرها وتجاربها على متن المحطة، أما خطط ناسا لمواجهة توقف المحطة الدولية فتتمثل في الانتقال إلى القطاع التجاري، فهي تخطط لإطلاق محطة فضاء تجارية افتراضية في عام 2030، وهي الآن قيد الدراسة من قبل ثلاثة متعاقدين (بالإضافة إلى اقتراح ببناء مختبر ملحق أولا والذي سينفصل عن المحطة الدولية بعد انتهاء عمرها الافتراضي). كما أبرمت الوكالة مجموعة من الاتفاقيات الخاصة بالعصر الجديد لاستكشاف القمر، المسماة اتفاقيات "أرتميس"، التي وقعتها 20 دولة أخرى، لم تكن من بينها روسيا ولا الصين. بدلا من ذلك، قالت موسكو وبكين إنهما تخططان لبناء قاعدتهما الخاصة، معا، على سطح القمر.
يمكن وصف هذا التعاون بين روسيا والصين على أنه استغلال من الأولى للتحيز الأميركي ضد بكين في ما يتعلق ببرامج الفضاء. فرغم أنها تحمل صفة التعاون الدولي، إلا أن محطة الفضاء الدولية لم تكن يوما "دولية" بالمعنى الحقيقي، إذ استبعدت الولايات المتحدة الصين من عملها في الفضاء. كما يمنع قانون أميركي صدر في عام 2011 وكالة الفضاء الأميركية من التعاون مع نظيرتها الصينية. وعلى أثر ذلك، لم يقم أي رائد فضاء من الصين بزيارة محطة الفضاء الدولية.
تثير الخطوة الروسية مخاوف من أن ترك موسكو واحدة من آخر بقايا مظاهر التعاون مع الغرب سيؤدي إلى انتكاسة في البحث العلمي، وربما يؤدي إلى زيادة التنافس الدولي على عسكرة الفضاء.