"ما بعد" لمها حاج: جمالية سينما تعاين أهوالاً وانكسارات

26 اغسطس 2024
"ما بعد": روتينٌ يوميّ يُخفي جُرحاً غير مندمل (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "ما بعد" (2024) للمخرجة مها حاج يتناول حياة زوجين مسنين، سليمان ولبنى، يعيشان في عزلة ويتحدثان عن أولادهما الخمسة.
- تتغير الأجواء بقدوم خليل حاج، زميل ابنهم، الذي يكشف عن ماضيهما المؤلم في غزة وتأثيره على حياتهما الحالية.
- الفيلم يعكس مأساة أهل غزة من خلال سيناريو محكم وتصوير سينمائي رائع، ويستخدم الصوت والموسيقى لخلق جو مشحون بالتوتر، مما يترك المشاهد في حالة دهشة وارتباك.

رجلٌ وامرأة في مزرعةٍ، يتبيّن لاحقاً أنّها معزولةٌ كلّياً عن العالم. يرتديان الأسود دائماً. يعملان في الحقل، والمرأة تطبخ وتنظّف البيت وما حوله. يتناولان الطعام معاً في الأوقات الثلاثة المعتادة. يتحدّثان عن أولادهما الخمسة (أربعة شبانٍ وصبيّة)، فكلّ واحدٍ منهم يُقيم في مكانٍ ما. يتبادلان أخبارهم، فكلٌّ منهم يتصل بأحد الوالدين، والثاني يُخبر الأول ما يسمع (هاتفياً) أو يقرأ (بريد إلكتروني) من تلك الأخبار.

كلّ شيءٍ عادي. حياة يومية روتينية. استعادة ذكرياتٍ قديمة تكشف أنّ اختلافاتٍ في كيفية التربية والعيش بينهما حاضرةٌ سابقاً، والآن يبدوان مستسلِمَين لهدوء يريدانه في عمرٍ متقدّم. شتاء يليه صحوٌ. تفاصيل صغيرة تملأ فراغات في يومياتهما تلك.

هذا حاصلٌ في "ما بعد" (32 دقيقة، 2024)، للفلسطينية مها حاج، الفائز بجائزتي أفضل فيلم قصير للمؤلّف ولجنة تحكيم الشباب المستقلّة، في الدورة الـ77 (7 ـ 17 أغسطس/آب 2024) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي". إنّهما سليمان (محمد بكري) ولبنى (عرين العمري). معاً، يبدوان في وقتٍ ساكنٍ في لاشيء. فضاء رماديّ، وأمطار غزيرة، وصحوّ يزداد قتامة. كلامٌ بينهما عن أبناء وأحفاد، وعن ماضٍ طاغٍ على راهنٍ، يكاد يكون انعكاساً لذاك الماضي غير المعلوم كفايةً. لا إيحاء بالحاصل، ولا إشارة. كلام معتادٌ بين زوجين في عمر متقدّم، يستمرّ إلى لحظة مفصلية، بمجيء شابٍ يُعرّف عن نفسه بالتالي: "اسمي خليل حاج (عامر حليحل)، زميل الصفّ مع خالد (الابن البكر)". أمّا هدف الزيارة، فيتمثّل برغبته، كصحافيّ، في إجراء تحقيق عن الوالدين ومعهما، إذْ لديهما ما يعرفه كثيرون وكثيرات في ماضٍ، سينكشف أنّه مؤلم وقاسٍ، بل مدمِّر وساحق.

ذاك أنّ سليمان (أبو خالد) ولبنى (أم خالد) مقيمان سابقاً في قطاع غزّة، وأنّ الوحش الإسرائيلي يُدخلهما في فراغ عيشٍ وانكسار، وأنّ فعلاً يرتكبه يدفعهما إلى عزلة في مزرعةٍ بعيدة في منطقة نائية. فعلٌ يُفضَّل عدم ذكره، فانكشافه في لحظةٍ محدّدة (هذا جزء من جمالية السيناريو والتصوير) عاملٌ أساسيّ في تعرية راهنٍ وتبيان مستور، ودافعٌ إلى استعادة السابق على الانكشاف، لفهم تعابير وملامح، وأسلوب مَشي، ونظرات، ونبرة صوت وقول.

غزّة، التي يمارس فيها الإسرائيلي الآن حرباً جديدة غير مسبوقة بوحشيتها، أساس نصٍّ (سيناريو حاج) ينفتح على جُرحٍ غير مندمل، ويصنع ذاكرة فاعلةً في يومياتٍ وعلاقات ومشاعر. لكنّ "ما بعد"، بتحرّره من قول مباشر في واقع الإبادة الإسرائيلية الحالية للقطاع، ينسج حبكته بتُؤَدة، موهماً أنّ الأمور عادية في يوميات الأب والأم، رغم أنّ الأسود والرماديّ غالبان منذ البداية، وضغطاً تُثيره لقطات وسلوك. أمّا لحظة الانقلاب، الدرامي والسرديّ كما الفرديّ في شخصيتيّ سليمان ولبنى، فتؤسِّس نهايةً للفيلم لا للحكاية، التي (الحكاية) ستمتدّ طويلاً في الزمان والمكان والنفس والجسد والأمكنة والانفعالات، كما يتبيّن من لقطة خروج الكاميرا (مدير التصوير: أوغسْتان بونّي) من المنزل، والتعابير المرتبكة والمندهشة التي يُعبّر خليل عنها بصمتٍ وقلق وارتباك، وبعدم فهم ما يسمعه ويشاهده في العشاء، الأول له والأخير، مع الوالدين.

 

 

وغزّة نفسها، التي تُشكِّل جغرافيا القهر للوالدين، تظهر في أعينهما ووجهيهما و"ثباتهما المهتزّ" في صالون الدار الصغيرة، وهما جالسان أمام صحافيّ، يشرب الشاي معهما، ويكشف الحاصل لهما، بأسئلة قليلة، قبل انتباهه إلى أنّهما غير راغبين، أو ربما غير قادرين على قول شيء، باستثناء أعمار الأبناء الأربعة والابنة الوحيدة، أكثر الأولاد دلالاً عند والدها، الطبيب المنشغل كثيراً في عمله، في زمنٍ ماضٍ.

إنْ يكن المكان واحداً، فالزمان أيامٌ تتوالى بهدوء وصمتٍ شبه كامل. فالزوجان يتبادلان أحاديث عادية (مُشارٌ إلى هذا سابقاً)، لكنّ لحظات عدّة تمرّ من دون صوتٍ بشريّ، والصوت، في "ما بعد"، أساسيّ للغاية، إلى حدّ أنّ هناك أربعةً عاملون فيه: أدريان بومايستر (ميكساج) ومارتا بيلّنغْسلي (تصميم) وفرنشيسكو ألبرتيلّي (مونتاج) ومحمد أبو حمد (مهندس). فرغم أنّ السكينة في مكانٍ مُثيرة لهدوء وراحةٍ وشعور بأمان، يصنع الاشتغال بالصوت فيه عالماً مشحوناً بثقلٍ ما، تتبيّن حقيقته في تلك اللحظة الانقلابية، تُضاف إليه موسيقى (منذر عودة، منتج ومشرف موسيقى: فاليريو فيليار)، لا بُدّ من استعادتها في السابق على اللحظة الانقلابية، لاكتشاف المخبّأ في الصورة والأداء والمسار الدرامي.

"ما بعد" مها حاج: عن كيف تُصوّر مأساةً بشرية، يعانيها أهل غزّة في أزمنةٍ كثيرة، باشتغال سينمائي رائع ومؤلم وبديع وقاهِر. أو: عن كيف تكون السينما، بما فيها من جماليات وبهاء وإتقان، مرآة عيشٍ، إنْ يكن العيش على حافة الموت أو فيه، أو في قعر الحياة وخرابها، وهذا بسلاسةٍ وبساطةٍ لن تُخفِيَا حِرفية اشتغال، لن تكون مهنيّة بحتة، ففي اشتغال حاج ما يجعل المُشاهَدة مزيج تناقضات: روعة صورة وسينما، وقسوة واقع وألم.

المساهمون