قال أحدهم ذات مرة: "هناك أشياء نعرفها، ونعرف أننا نعرفها، وأشياء لا نعرفها ونعرف أننا لا نعرفها، وأشياء لا نعرفها ولا نعرف أننا لا نعرفها". بالنسبة للإنسان في عصرنا، فإنه يعرف عن كل شيء، ويدّعي فهم كل شيء، لدرجة أنه أراد وضع نظرية واحدة لكل شيء. كما نصّب الإنسان نفسه مسؤولاً عن حماية البيئة والدفاع عن مخلوقات الطبيعة، بينما هو المسؤول عن كوارثها. وأحدث ادعاءات الفهم تلك، ما بثته منصة نتفليكس، ضمن وثائقي Inside the Mind of a Cat، وأطلقت عليه بالعربية "ماذا يدور في رأس القطط؟".
تتمحور إشكالية العمل التي يطرحها ويشتغل عليها، حول إثبات خطأ المعتقدين بالقدرات المحدودة للقطط، وإظهار إمكاناتها الاجتماعية وقدراتها غير المحدودة، فتُظهر مشاهد الفيلم قططاً مدربة تدريباً فائقاً، وهي تؤدي تمارينها في السيرك بإتقان، وبعضها الآخر يبدو كأنه نجم سينمائي أمام الكاميرا. تتخلل مشاهد الوثائقي عروضاً وتجارب يجريها خبراء في عالم القطط، منهم متخصص في "علم نفس القطط"، ومنهم مالك، وآخر مدرب.
ما يظهره الفيلم على المستوى العلمي، ويبرزه بأنه اكتشافات جديدة تفتح الباب أخيراً أمام فهم "رفاقنا المحيرين"، ليس بجديد، ومكرر، في الكتب والمجلات والمواقع الإلكترونية، ويخضع للتعلم الاستجابي الشرطي، الإشراط الكلاسيكي أو البافلوفي، الذي نظن أن جميع مربي القطط يعرفونه، وإن لم يحفظوا أو يطلقوا عليه اسمه العلمي.
ونحن نعلم أن علم النفس الحيواني، واعتباراً لمنهجه القائم على التجربة، متضمن في علم النفس التجريبي، وهذا يعني أن هناك قواعد صارمة وصيغاً حازمة يجب اتباعها عند إجراء التجارب، وهذا لم يظهره الفيلم، وإنما اكتفى بعرض التجارب التي تثير الضحك أكثر من المعرفة، مثل تجربة أن القطط تعرف صاحبها، أو أنها ستميل لصاحبها وتفضله على الغريب، أو أنها بذكاء الكلاب، بل أذكى منها، إذا ما أتيح لها المران.
كما أن العمل لم يرسل إشارات لطيفة لمن يعاني "رهاب القطط"؛ فورد في الحديث عن جانب المرح واللعب في شخصية هذه الكائنات، أنها قد "ورثتها عن أسلافها القتلة"، أي القطط الكبيرة، مثل الأسود. كما أن الدراسة الحديثة التي عرضها الوثائقي، والتي أرجعت علاقة البشر بالقطط إلى ما قبل الثقافة المصرية، ليست جديدة، وربط العمل بين الدراسة والقصة الأسطورية التي أسست للعلاقة بين الإنسان والقط، وذلك بحصرها بمهمة صيد القوارض وحراسة مخازن الحبوب من الفئران.
وفي سياق محاولة فهمه ومقاربته لكل ما يتعلق بالقطط، طرح الفيلم سؤالاً أكثر من مرة، ثم ردده بصيغة لحوحة في النهاية: هل تحبنا القطط؟ هل تبادلنا الحب نفسه الذي نُكنّه لها؟ لكنه لم يصل إلى إجابة شافية. فلم يكفه أن البشر استأنسوا القطط منذ نحو 10 آلاف عام، ويوجد منهم حالياً 400 مليون قط حول العالم، تسعة ملايين منها في اليابان، وحدها، و100 ألف في مدينة القطط، إسطنبول، كل ذلك ليس بقانع للباحث في الوثائقي عن سؤال الحب، ورغبته في معرفة أن القط يبادله الحب نفسه، وكأنه يريده أن ينطقها: "أحبك أيها البشري".
لكن نعرف أنه لن ينطقها، لسببين؛ الأول، لغوي، والثاني، تاريخي. بالنسبة للأول، فما نجده في لسان العرب لابن منظور عند البحث عن معاني الهرّ، والجمع هررة، والأنثى هرّة، وتعني من ضمن ما تعنيه "الكره"، فقد قال ابن الأعرابي: "أجد في وجهه هِرة وهَريرة أي كراهية". وقالوا: "ما يعرفُ هرّاً من بر"، بمعنى، لا يعرف من يكرهه ممن يبرّه.
أما السبب الثاني، التاريخي، فإنه في عام 1233 ميلادية، أصدر البابا غريغوري التاسع مرسوم Vox in Rama، من بين ما أعلنه، حينها، أن "الشيطان كان نصف قط، ويظهر على شكل قط أحياناً. وبدأت الناس بأوروبا بذبح كل القطط التي تطاولها أيديها".
يبدو أن أهم ما جاء في الوثائقي على لسان المختصة في "علم نفس القطط" عندما قالت: "إن الفرصة لم تسنح للقطط بعد لتثبت قدراتها".
ربما تأتي الفرصة من الأسطورة اليابانية التي تقول إن "باكينكو، وهو نوع من القطط الوحشية، عندما يصل أفرادها إلى سن الشيخوخة ستسود وستبدأ في تطوير قوى خارقة للطبيعة، وتتحول بالكامل إلى يوكاي، أي من الفئات الخارقة للطبيعة".