"ليمبو" الأسترالي... لوحة فنية بمستويات جمالية عدّة

13 اغسطس 2023
هيرلي/ بيكر: إرهاق نفسي في "ليمبو" القهر والألم (الموقع الإلكتروني لبرليناله)
+ الخط -

استطاع المخرج وكاتب السيناريو الأسترالي إيفان سَنْ أنْ يفرض خياراً جمالياً صعباً، في فيلمه الأخير "ليمبو" Limbo، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لمهرجان برلين السينمائي، انعكس باعتماده الأسود والأبيض فقط، ليُعطي بُعداً تأمّلياً وفكرياً.

إضافة إلى تشابك اللونين مع نفسيات شخصياته المأزومة والمُرهَقة، ففرصهم كلّها محدودة جداً. إنّهم محرومون من الألوان التي تعطيها الحياة، وبالتالي تعطّلت الأماني، وحوصرت في حيّز جغرافي مُرهِق أيضاً، بعد استنزاف خيراته ومعادنه، وتركه مُشوَّهاً بالحُفر والرمال المتقلّبة، والحجارة المفتّتة والمستخرجة من الباطن بحثاً عن المعدن النفيس، من الرجل الأبيض الذي أخذ ما يلمع منها، تاركاً الباقي/الفتات لأبناء القرية، الأصحاب الحقيقيين للأرض، أي السكّان الأصلّيين المنهَكين بالتمييز العنصري والتهميش والظلم.

تتلخص قصّة "ليمبو" (اسم قرية أسترالية يقطنها السكّان الأصليون) بوصول الشرطي الأبيض ترافيس هيرلي (سايمون بيكر) إلى القرية، للبحث عن دافع، والعثور على حقائق جديدة في قضية اختفاء فتاة من السكّان الأصليين قبل 20 عاماً، للتمكّن من إعادة فتح القضية مجدداً، والتحقيق في جريمة الاختفاء/القتل. لكنْ، في بداية التحقيق، واجه الصَدّ ورفض التعاون معه، لأنّه شرطي أبيض، خاصة من شقيق المختفية تشارلي (روب كولنز) وشقيقتها إيما (ناتاشا وانغِنين)، لأنهما عَانَيا كثيراً من عنصرية الشرطة، غير المهتمّة بهذا الاختفاء عند حصوله، بل حاولت إلصاق الجريمة بتشارلي، متّهمة إياه بقتلها، بعد وشاية كاذبة من آخرين. أقرّ الشقيقان بهذا فقط لوضع حدّ للتعذيب الذي يتعرّضان له. لذا، رفضا بداية، وبشكل مطلق، التعاون مع ترافيس، لأنّ لديهما مواقف سلبية إزاء الرجال البيض العنصريين.

كما أنّ القضية أعادت أوجاع الماضي وآلامه. فبسبب اختفاء الأخت، تحوّلت حياة كثيرين إلى شقاء مستمرّ، وأثّرت عملياً على حياة كلّ فرد، خاصة الأم، التي تتوفّى لاحقاً بحسرتها، وتشارلي المنعزل والمحطّم نفسياً، وإيما التي تعاني إفرازات المسألة عليها وعلى أسرتها وأطفالها. لكنّ البحث عن الحقيقة جعلهم يتعاونون أخيراً، ما أوصل ترافيس الى استنتاجات جديدة عدّة، عقّدت القضية أكثر، وفي الوقت نفسه فتحت مسالك جديدة لكلّ فرد في "ليمبو".

خلق إيفان سِن مستويات معرفية وجمالية، وكرّسها لخدمة القضية الأساسية: جراح العنصرية ومآسيها، ومدى تأثيرها على الأجيال المتلاحقة من السكّان الأصليين، الذين توقفوا عن الحلم بغدٍ أفضل، لأنّ ما يرونه من الرجل الأبيض لا يتغيّر إطلاقاً، وما حدث للفتاة قبل 20 عاماً، لا يزال يحدث اليوم وإنْ بوسائل مختلفة. الدليل أنّ معاملة الشرطة المحلية لم تتغيّر، والمآسي لا تنتهي، بل تتجدّد دائماّ مع أيّ تصرّف يحدث. هذا عرفه ترافيس هيرلي وخبره، رغم أنّه هو أيضاً مُنهكٌ نفسياً، بسبب مشاكل أسرية، تجعله يعيش بعيداً عن ابنه، ويتعاطى المخدّرات.

أسقط إيفان سِن هذه المثالية المزيفة عن المحقّق، وجعله يلتحم بمشاكل الآخرين وهمومهم، ليجد مسالك تُمكّنه من فهم الآخر الذي يحيا بعيداً عن أسرته، كتشارلي، الذي يعيش في عزلة وحزن، لأنّه لم يستطع التحرّر من الماضي وقسوته.

سينما ودراما
التحديثات الحية

تغلّب الموضوع على الوتيرة البطيئة للفيلم، التي تحوّلت إلى إحدى ركائزه المهمة، بخلقها فرصاً عدّة لتأمّل بقية العناصر على مهل، مع ربط الموجودات بعناصر أخرى، كالمناظر البانورامية والملتقطة من أعلى للبلدة، مُظهِرةً حُفراً مُنتشرة، وكثباناً عالية، ومغارات كثيرة. منظرٌ يُمكن ربطه/مقارنته بالقمر، بل هناك تطابق كبير، فهذه إحالة واضحة من الإحالات الذكية عن ابتعاد البلدة عن الواقع والحياة العادية، إضافة إلى طغيان اللون الرمادي، الذي يعكس نفسية كلّ فرد. فسِن ربط المشاهد بنفسيات الشخصيات، وبالموضوع الأساسي، خاصة انتشار الغبار، وبقايا السيارات، والطرق غير المُعبّدة، والخواء، وخلوّ شوارع من الناس، وغيرها.

هذا كلّه ساهم في خلق مزاج معين للمتلقّي، الذي أحس بما يمرّ به تشارلي الغارق في عزلته، وبما تحسّ به إيما، التي تعمل نادلة لتعيل 3 أطفال، والتي ـ رغم ماضيها القاسي مع الشرطة ـ أرادت إقامة علاقة عابرة مع المحقّق، كأنّها أحبّت جلاّدها، وهذا مُنطلق نفسي له تفاسير علمية، ومعطى معرفي آخر يخدم الجانب التأمّلي للفيلم.

انعكست بصمة إيفان سِن، بدرجة كبيرة، في معالجته الإخراجية، انطلاقاً من قوة الموضوع، وما أفرزه من صِيَغ جمالية وفكرية؛ وفي آليات جعلت الفيلم سينمائياً بأبعاده الفنية، وهذا عنصر عملي تمثّل بأداء الممثلين وتعاطيهم مع الشخصيات المأزومة، خاصة بِعَكْس الكآبة والحزن والحسرة والخوف من المواجهة، وانفعالات نفسية أخرى، وربطها عملياً بملامحهم وتصرّفاتهم وحركات أجسادهم. أحسن سِن اختيارهم وإدارتهم، وأهمهم سايمون بايكر، الذي أدّى شخصية لا تشبهه ولا تعكس مساره الفني، بعد أنْ أخرجه سِن من أدوار الرومانسية، مُبعداً عنه تلك الجاذبية التي فرضها شكله على مؤسّسات الإنتاج السينمائي، التي استغلّتها كثيراً.

في "ليمبو"، تعامل مع دور مُعقّد ومُركّب، يحتوي على أسرار كثيرة. صارم من غير عُنف، ومتفهّم من غير ضعف. هذا حدث أيضاً مع روب كولنز وناتاشا وانغِنين، اللذين قدّما شحنة عاطفية كبيرة، وهما بالمناسبة ممثّلان من السكّان الأصليين. ربما لم تكن غريبة عليهما تلك العاطفة القوية التي جسّداها، وتعكس بمجملها الخذلان وجراح العنصرية.

"ليمبو" فيلم رزين ومختلف، اشتغل على جماليات نادرة وفّرها الأسود والأبيض، فولّد هذا الخيار قدرات تخيّل واسعة لدى المتلقّي، ونشط خياله وشحن يقظته وعَدّد خياراته التأويلية. كما أظهر قدرة إيفان سِن في حُسن استغلال معالم القرية وتوظيفها لخدمة الفيلم، واستطاع أنْ يعكس الظلم الذي يعانيه السكّان الأصليون، خاصة أنّه عاش مرارة هذا الظلم، بحكم أنّ والدته منتمية إليهم. بهذا كلّه، يكون "ليمبو" لوحة فنية بمستويات جمالية عدّة.

المساهمون