كيف بنت إسرائيل سردية 7 أكتوبر على التضليل؟

07 أكتوبر 2024
غداة المجزرة في المستشفى المعمداني، أكتوبر 2023 (محمود الهمص/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انتشرت روايات غير موثقة حول جرائم عنف جنسي ارتكبها مقاومو القسام ضد نساء إسرائيليات بعد عملية طوفان الأقصى، ولم تقدم أي أدلة موثوقة تدعم هذه الادعاءات.
- شائعات حول قطع رؤوس أطفال إسرائيليين على يد مقاتلي حماس نفتها المصادر الإسرائيلية، لكن وسائل الإعلام الغربية استمرت في تبنيها، مما ساهم في تصعيد العدوان على غزة.
- الاحتلال الإسرائيلي برر قصف المستشفيات في غزة بادعاءات غير موثوقة حول استخدامها من قبل حماس لتخزين الأسلحة، دون تقديم أدلة تدعم هذه الادعاءات.

"لم أعتقد يوماً أني سأرى وأحصل على صور مؤكدة لإرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال" ــ الرئيس الأميركي جو بايدن، 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
"بايدن وإدارته لم يطّلعا بأم العين على صور (لأطفال مقطوعي الرأس)، بل بنى بايدن تعليقه على تصريحات لمسؤولين إسرائيليين وعلى تقارير إعلامية" ــ مسؤول أميركي في مجلس الأمن القومي، 12 أكتوبر 2023.
تصريح بايدن، ثمّ نفيه، يختصران عاماً كاملاً من الضخ الإسرائيلي والأميركي ــ الغربي للمعلومات المضللة حول عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، صباح 7 أكتوبر 2023، في مستوطنات غلاف غزة، وأسفرت بحسب الأرقام الإسرائيلية عن قتل قرابة 1100 إسرائيلي.
لم يكن الاحتلال لينجح في مواصلة عدوانه طيلة هذا العام لولا عوامل كثيرة، بينها أولاً الغطاء الغربي والسلاح المتدفّق لجيشه، وثانياً غطاء من نوع آخر، إعلامي هذه المرة، بعدما وجدت كل أكاذيب الاحتلال طريقها إلى الصفحات الأولى ونشرات الأخبار في كبرى المؤسسات الإعلامية الغربية، تلك التي يتابعها ويقرأها عشرات ملايين الأشخاص.
ثلاث أكاذيب برزت في الأيام الأولى لحرب الإبادة، ولعبت دورها في نزع الإنسانية عن الفلسطينيين تمهيداً لإبادتهم، فتلقفتها وسائل الإعلام وروجّت لها على اعتبارها حقائق غير قابلة للنقاش.

عنف جنسي 7 أكتوبر 2023؟

بعد دخول مقاتلي حركة حماس مستوطنات غلاف غزة، بدأت سريعاً الفيديوهات والصور بالانتشار في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي: لقطات لأسر إسرائيليين، وأخرى لقتلى في المستوطنات... وبعد ساعات من العملية بدأ ضخّ رواية موحدة حول جرائم عنف جنسي ارتكبها مقاومو القسّام ضد نساء إسرائيليات. وبالتوازي مع الرواية، انتشرت فيديوهات لإسرائيليات أسرتهن المقاومة، فقيل سريعاً إنهن ضحايا عنف جنسي. توسّع هذا الخطاب، وتبنّته مؤسسات إعلامية غربية، ومؤسسات حقوقية، ونسويات غربيات وعربيات رافضات للعنف الجنسي في الحروب.
ما الذي حصل بعدها؟ تدريجياً بدأ يتبيّن زيف الرواية الإسرائيلية، فبعد عامٍ كامل من عملية طوفان الأقصى، لم ينجح الجانب الإسرائيلي في تقديم شهادة واحدة موثّقة عن تعرّض إسرائيليات لجرائم اغتصاب. حتى عندما انضمّت مؤسسات إعلامية كبرى، مثل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، للترويج للرواية الإسرائيلية عبر تحقيق مطوّل، ادعت فيه تفنيد جرائم العنف الجنسي في ذلك اليوم، تبيّن أن الشهادات التي وردت فيه غير موثّقة، وأن الادلة الجنائية والطب الشرعي الإسرائيلي فشل في إثبات هذه الادعاءات، ما اضطر الصحيفة لاحقاً إلى الاستغناء عن تعاونها مع واحدة من الصحافيات المشاركات في التحقيق، هي أنات شوارتز، بعدما ظهر تاريخها بالتعاطف مع الاحتلال والتحريض على قتل الفلسطينيين.
لقصة العنف الجنسي في 7 أكتوبر تشعّبات كثيرة... بدأت في ذلك اليوم، وتوسّعت طيلة الأشهر الماضية. وعند كل محاولة للترويج لهذه الادعاءات، تبيّن الافتقار التام إلى الأدلة. حتى عند الإفراج عن أسيرات كنّ معتقلات في غزة، كرّرن جميعاً أنهنّ تلقينَ معاملة حسنة وأنهنّ لم يتعرّضن لأي شكل من أشكال الإساءة.
وعندما أصدرت الأمم المتحدة تقريرها حول الموضوع، اعترف مؤلفو التقرير بأنهم واجهوا عدداً من التحديات، أبرزها أن معظم ضحايا العنف الجنسي المفترضات كنّ ميتات؛ وقد جُمعت جثثهن بواسطة متطوعين غير مدربين في مجال الطب الشرعي، الذين أعطوا الأولوية لدفنهن بسرعة وبشكل لائق، على حساب جمع الأدلة؛ كما أن العديد من الجثث كانت محترقة. ومع ذلك، خلص التقرير إلى أنه "توجد أسباب معقولة للاعتقاد بأن العنف الجنسي المرتبط بالصراع وقع خلال هجمات 7 أكتوبر"، أي أن الأمم المتحدة نفسها فشلت في إثبات هذه الادعاءات مكتفية بالاستنتاجات "المعقولة".
استغلال الاحتلال أجساد النساء سلاحاً في بناء سرديّته المتخيلة عن 7 أكتوبر لم يكن مستغرباً. فطيلة هذا العام، كرّر جنود الاحتلال اللجوء إلى الإيحاءات الجنسية، من خلال نشر صورهم وهم يرتدون ملابس داخلية لنساء فلسطينيات، بعد احتلال منازلهنّ. هذه التجليات الإسرائيلية المضطربة، لربط العنف الجنسي بالإبادة، حوّلت ادعاءات الاغتصاب في 7 أكتوبر إلى مجرّد اتهامات عشوائية في الهواء، بلا أي قيمة حقيقية على الأرض.

أطفال بلا رؤوس... أطفال في الأفران

قبل يومَين، أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي صور أطفال فلسطينيين بلا رؤوس، بعد المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في شمالي غزة، قبل يومَين فقط، في اليوم 366 للعدوان على قطاع غزة. يصعب عدّ المرات التي رأينا فيها صور أطفال غزيين مقطوعي الرؤوس، عشر مرات؟ 15 مرة؟ 100 ربّما؟ لم يجد أي من هؤلاء الأطفال الشهداء طريقهم إلى الإعلام الغربي إلا في ما ندر. لم ينهَر العالم لرؤيته أطفال غزة بلا رؤوسهم، لكن يومَي السابع والثامن من أكتوبر 2023 تصدّرت أغلفة الصحف قصّة متخيّلة عن قطع مقاتلي حماس رؤوس أربعين طفلاً إسرائيلياً خلال عملية طوفان الأقصى. لم يرَ أحد هؤلاء الأطفال، لم نسمع شهادة واحدة من أهاليهم، وتكرّرت تكذيبات المصادر الإسرائيلية نفسها لهذه الواقعة المتخيّلة، ورغم ذلك تبنّاها الإعلام الغربي والإعلام الإسرائيلي. لنأخذ على سبيل المثال صحيفة بحجم "ذي إندبندنت" البريطانية، التي خصصت غلافها يوم 11 أكتوبر 2023 للعنوان التالي "لقد قطعوا رؤوس النساء والأطفال، رأينا أطفالاً موتى، يقول مصدر إسرائيلي". شكّلت عشرات المؤسسات الإعلامية غطاءً لتصعيد العدوان على غزة، ولقتل المدنيين، من خلال تبنّي رواية قطع رؤوس الأطفال، مشجّعة جيش الاحتلال على التخلّص من "الإرهابيين والبرابرة"، أي الفلسطينيين في هذه الحالة.

وبعد نشر جهات إسرائيلية ومنظمات حقوقية، وجمعيات أهلية أسعفت المستوطنين يوم عملية طوفان الأقصى، نفياً لقطع رؤوس الأطفال، اختفى الخبر تدريجياً، من دون أن تعتذر أي مؤسسة إعلامية عن نشره، ومن دون أن تتحمّل مسؤوليتها في التحريض وتأمين غطاء للإبادة.
لكن هل توقّف تدفّق الأخبار المضللة بعد تكذيب الخبر أعلاه؟ طبعاً لا. فشلت رواية الأطفال مقطوعي الرأس، فظهرت رواية الأطفال الذين وضعوا في الأفران أحياء. استحضار رمزيات الهولوكوست شكّل جزءاً أساسياً من بناء سردية السابع من أكتوبر، ولم يكن اختلاق رواية قتل أطفال بوضعهم أحياء في أفران إلا جزءاً من هذه الرمزية. لم تصمد الرواية طويلاً بعدما تبيّن أن الصور المنشورة للأطفال المقتولين مصنوعة ببرمجيات الذكاء الاصطناعي، لكنّها بقيت حاضرة لأسابيع بعد 7 أكتوبر، خلال النقاشات التلفزيونية في برامج التوك شو الإسرائيلية والفرنسية والأميركية بشكل خاص.

المستشفيات والأطباء والروزنامة

لم يتأخّر الاحتلال في بناء رواية خاصة حول المستشفيات في قطاع غزة لتبرير قصفها وقتل الأطباء والممرضين والمسعفين، ولم يجد الجيش الإسرائيلي أي رادع منذ قصفه المستشفى المعمداني بكل من فيه يوم 17 أكتوبر 2023.
لكن كيف برّر الاحتلال قصف كل مستشفيات القطاع وإخراجها عن الخدمة بشكل متكرّر؟ وكيف برّر قتل أثر من 990 شخص من العاملين في القطاع الصحي؟ وكيف برّر اعتقال أكثر من 300 عامل صحي؟ وكيف برّر توقّف 130 سيارة إسعاف عن العمل؟ بالكذب طبعاً. ادعى الاحتلال بعد ساعات من بدء عدوانه على القطاع أن حركة حماس تستخدم أقبية المستشفيات لتخزين الأسلحة، وأنها بنت أنفاقاً تحت معظم المؤسسات الطبية. وكدليل على ادعاءاتها استدعت فريقاً صحافياً (من ضمنه فريق شبكة CNN الأميركية)، لإثبات كل ما سبق. فكان الدليل تقويم لتقسيم دوامات الأطباء على حائط في مستشفى الرنتيسي للأطفال، ادعى الاحتلال أنها روزنامة عمل مقاتلي حماس لمراقبة الرهائن المحتجزين في ذلك المكان.
ورغم تكذيب رواية الاحتلال في اليوم نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي، نشرت CNN تقريراً تبنّت فيه رواية الاحتلال، من دون أي تدقيق أو مراجعة.

المساهمون