في الوثائقي "زاوية أمي، أو كارت بوستال" (2020)، تعثر المغربية أسماء المُدير، في مُتعلّقات والدتها، على بطاقة بريدية قديمة مُصوّرة، أو "كارت بوستال"، لقرية جبلية، يتّضح أنّها (القرية) "الزاوية"، حيث ولدت وعاشت والدتها، قبل مغادرتها إياها صغيرةً. تُقرّر المُدير الذهاب إلى هناك، بحثاً عن ماضي والدتها، وعن جذورها أيضاً. ثم عَقْد مُقارنة بين حياتها وحاضرها هي، الآن، وحياة وحاضر والدتها وأهل القرية، وما آلت إليه الحياة الراهنة لوالدتها، مُقارنة بمصيرها، لو بقيت في القرية. في ختام الفيلم، يتكشّف أنّ ما بدأ رحلة فردية حميمة، بحثاً عن جذور عائلية وماضٍ شخصي وهوية وذات، تطوّر إلى قصّة إنسانية عن حبّ الحياة، والرغبة في التحرّر، والهجرة، والخلاص من فقر وتخلّف وانغلاق مُجتمع.
في جديدها "كذب أبيض، أو أمّ الأكاذيب" (2023)، الفائز بجائزة أفضل إخراج في مسابقة "نظرة ما"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، تعزف أسماء المُدير (32 عاماً) على القيثارة نفسها تقريباً. إذْ يبدو جديدها امتداداً مُغايراً، أو محض تنويع على عملها السابق، وإنْ بنهج أشمل، ومهارة فنية أثقل، ومساحات أعمق، وتمكّن وصدق أكبر، واستشراف أبعاد أكثر رحابة وجرأة. التشابه بين الفيلمين يتجلّى في أكثر من جانب، بدءاً من تمويل "قناة الجزيرة الوثائقية" أعمالها، والتصميم على اختيار عنوانين لكلّ فيلم (رئيسي وفرعي)، وتوظيف المخرجة صوتها في التعليق على الأحداث، أو تفسير بعضها وسرد أخرى.
كما أنّها تُوظّف الدُمى، أو العرائس المُصغّرة، كأبطال جذّابين للغاية، عوضاً عن الأبطال الرئيسيين في بعض المشاهد. وهذا على غرار استخدامها التقنية نفسها في فيلمها القصير "جمعة مُباركة" (2013). إلا أن القاسم المُشترك الأكبر يتمثّل في تأسيس جديدها على الفكرة نفسها: عثور المُدير، بين مُتعلّقات الأسرة، على صورة فوتوغرافية (هذه المرّة)، لا بطاقة بريدية، تجعلها مُسوّغاً للحبكة، وإطلاق الأحداث، وتطوير الأفكار. وبالتالي، فانطلاقها من الشخصيّ ـ الخاص، لا يتّجه إلى الذاتيّ لسبر أغواره، فالأمر مُجرّد ركيزة انطلاق إلى العام، والانفتاح على فضاءات أوسع من حدود الذات.
فجأة، انزعجت أسماء البالِغَة، بعد اكتشافها أنّ هناك صورة واحدة شخصية لها كطفلة. حتّى في هذه الصورة، لم تكن مُقتنعة بأنّها هي. الصورة تجمع أطفالاً يجلسون في فناءٍ وهم مبتسمون، وفي الجزء الخلفي، تقريباً خارج الإطار، يُمكن رؤية فتاة صغيرة، تبدو خجولة، جالسة على مقعد. هذه الفتاة الخجولة هي أسماء، كما تُصرّ والدتها وردة، التي أعطت ابنتها الصورة أول مرة عند بلوغها 12 عاماً. شكّلت هذه الكذبة المُتصوَّرة صراعاً رئيسياً مع والدتها، في أعوام مُراهقَتِها. الوالدة تُصرّ على أنّها هي فعلاً، لكنّ أسماء ضغطت عليها لتفسير سبب وجود صورة واحدة فقط من سنوات ما قبل المُراهقة، ما دفعها إلى التشكيك في كلّ ما اعتقدت أنّها تعرفه عن عائلتها. الحجّة أنّ الدين يحظر الصُور والتصوير، وبناء على هذا، رفضت الزهراء، جدّة أسماء ذات الشخصية التقليدية الصارمة والمسيطرة، أنْ يكون للصُور وجود في منزلها، فهذه بنظرها "حرام".
بحث أسماء عن الحقيقة يأخذها إلى نبش الأسرار العائلية، والذكريات المدفونة. تُجري مُقابلات مع والديها وأقاربها وجيرانهم، لكنّها تُقابَل بالمُقاومة والإنكار عند كل مُنعطف. يبدو أنّ الجميع مُصمّمون على حماية أسرار العائلة من شيءٍ ما. من هنا، تُوظّف المخرجة موضوع الصورة لاستحضار ذكريات وقصص أخرى، تعاملت معها بارتياب. نكتشف أنّ الأسئلة الصغرى تفضي إلى أخرى، أكبر وأعقد وأعمق. وعليه، ينتقل الفيلم من قصص فردية شخصية أسرية حميمة، إلى ذكريات عامة مكبوتة وحزينة لإحدى أكثر اللحظات دموية وقمعية في التاريخ المغربي الحديث: أعمال الشغب عام 1981، المعروفة باسم "انتفاضة الخبز"، في الدار البيضاء تحديداً، إذْ لم يتمكن شباب عديدون في المدن الفقيرة من تحمّل الزيادة الحادّة في أسعار الخبز، فانطلقوا في الشوارع.
تدعو المُدير أفراد دائرتها المُقربة، الذين عانوا فظاعة ما جرى، وشهدوا بعيونهم، لإخبارها رواياتهم عن الأحداث الشائنة. ما جَعل الفيلم ثرياً الطريقةُ التي تُقدِّم بها هؤلاء، والحيّ بكامله، كمجاز لشرح التوليفات السياسية للمغرب حينها. تطلّ صورة الجارة فاطمة المُراهقة، التي توفيت في الأحداث، وكانت حينها في عمر أسماء، لتستدعي معها تواطؤ الشرطة والجيش، والبطش والتعذيب والتنكيل، وسَجْن آخرين، وقَتل عديدين، ودفن جثث مجهولة في مقابر جماعية، ومنع نشر أي معلومات تتعارض مع بيانات الحكومة، التي أعلنت رسمياً وفاة 66 شخصاً فقط، بينما تجاوز عدد القتلى، وفقاً لإعلان النقابات، 600 ضحية.
باجتهاد ومُثابرة لافتين للانتباه، شيَّدَ محمد، والد أسماء عامل البناء الماهر، عرائس ـ دُمى، وماكيت الشقة والبناية والحي؛ وحاكت والدتها الملابس، ونماذج أخرى مُصغّرة، اعتماداً على الذاكرة، بسبب قلّة المراجع والصور الفوتوغرافية التي يُمكن الاعتماد عليها. إلا أنّ العمل المُنجز، بمُساعدة مُصمّمين وفنيّين إضافيين، نابض بالحيوية؛ ودقّة التفاصيل عزّزت واقعيّته ومصداقيته، إذْ تؤدّي النماذج المُصمّمة بدقة، تلك التي تُصوّر المنزل والشارع الذي وقعت فيه المذبحة، والسجن تحديداً، دوراً رئيسياً في خلق الجو العام.
هذا الاستخدام، خاصة العرائس ـ الدمى، يستحضر وثائقيات أخرى، اعتمدت التقنية نفسها، كـ"الصورة المفقودة" (2013) للكمبودي ريثي بان، الذي يستعيد فظائع ارتكبها الخمير الحمر في كمبوديا؛ و"كلّ شيءٍ سيكون على ما يرام" (2022) للمخرج نفسه؛ والفيلم القصير "سيميائية البلاستيك" (2021) للروماني رادو جود؛ وغيرها.
ببراعة، تُحسِنُ أسماء المُدير توظيف الأضواء المُتلألئة بالأحمر والأزرق، لمُحاكاة صفّارات الإنذار والخطر، وتوظيف الصوت، ضجيج الناس وصراخهم، وطلقات الرصاص، ما أضفى واقعية حية كثيرة، مُحمّلة برمزية قوية. بهذا، تجلّت أبرز سمات "كذب أبيض": توليفة مُبتكرة ورمزية للنماذج ـ الدُمى، وإضاءة مُختارة بعناية، وأصوات وموسيقى تصويرية مُشوّقة، وتعليق صوتي لها، غامرةً المُشاهِد في السرد، ومُورّطة إياه في الأحداث، بصرياً وصوتياً، بطريقة فعّالة وأصيلة وجذّابة ومُؤثّرة عاطفياً، رغم غياب صُور فعلية وتسجيلات ولقطات أرشيفية لأحداث المجزرة.
في "كذب أبيض"، الفائز بـ"النجمة الذهبية (الجائزة الكبرى)" للدورة الـ20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، نجحت أسماء المُدير، بذكاء ومهارة، في خلق هذا التناوب الديناميكي والتوازن بين البُعد الجماعي للأحداث التاريخية، والمنظور الحميم والشخصيّ لعائلتها، بإظهار وحدة الأسرة، وكيف يتعامل كلّ فرد مع ذكرياته وخبراته. وفي الوقت نفسه أهمية طرح الحقيقة التاريخية مهما كانت، ومُواجهتها، وإنْ كانت مُؤلمة جداً، وعدم نسيان المظالم والمآسي التي حدثت.
"كذب أبيض" يتخطّى الانشغال الشخصي، والاهتمام بالسرد التاريخي لأحداثٍ مسكوت عنها، ليغوص أكثر في عوالم تاريخ وذاكرة وألمٍ، وبحثٍ عن الحقيقة.