الحديث عن العلاقة بين السينما والإبادة ذو شجون، ليس لأنّ الموضوع يحمل بُعداً سياسياً، فهذا لم يعد مطروحاً بالنسبة إلى ناقد سينمائيّ، يرصد باستمرار مرارة واقع عربيّ مُفكّك وخيباته، بل لأنّ ما يحدث في غزّة، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يدعو إلى التفكير في جدلية هذه العلاقة القائمة منذ الأزل. السينما، بسبب حركتها ومكرها، قادرة على كشف خبايا الاحتلال، ورصد مختلف أنواع الجرائم التي تتستّر عليها الأنظمة، لتغطية أهوال ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيين.
ولأنّ السينما فنٌ واقعيّ، تكون دائماً مدعوّة إلى هذا النوع من الواقع الذي تتعامل معه في مستويين. الأوّل، أنْ يُعيد مخرج اقتناص حكايات من الواقع المعيش، وجعلها تعتلي عرش الصورة السينمائية، وفق ميكانيزمات مختلفة من الطرح والمعالجة، فتكون الصورة، إلى جانب ما تتضمّنه من واقع حقيقي، تُعنى بالخيال، علماً أنّ الخيال هنا ليس ضرباً من الـ"فانتاستيك"، بقدر ما يُمثّل صورة مُطابقة للواقع الحيّ المباشر. الثاني، له علاقة بكيفية تسجيل الواقع الفلسطينيّ تسجيلاً ميكانيكياً، هاجسه الأرشفة والتوثيق.
هكذا، تكون الصورة السينمائية وثيقة تاريخية تدين الاحتلال الإسرائيلي، وتفضح جرائمه. هذا النوع من السينما يبدو قادراً على الاشتباك مع عنف اللحظة، لأنّه يُعطي للمُخرج إمكانات كبيرة للتعبير تجاه ما تشهده غزّة من قصفٍ وقتل وتنكيل. السينما، في هذه الحالة، تتحوّل إلى كائن حيّ يتجوّل في الممرّات والشوارع والأزقّة، ويلتقط مَشاهد لجنود ونساء ورجال وأطفال. لذلك، يتعامل الوثائقي مباشرة مع أحداث كهذه. وغالباً، تُثير أفلامٌ كهذه جدلاً كبيراً بعد عرضها، خاصّة من سلطات الاحتلال، وفي الأنظمة السياسية الغاشمة التي تتحوّل يوماً بعد يوم إلى ستار حديدي داخلي يحمي إسرائيل وميثولوجياتها.
يحتاج الفيلم الروائي إلى وقتٍ للكتابة والتفكير والتأمّل، لخلق مساحة كبرى للتخييل الذي يُعدّ شرطاً أساسياً لتحقيق مُتعه الجماليّة. على هذا الأساس، تأتي الأفلام لاحقة على الأحداث التاريخية التي تمُرّ بها المنطقة العربية، إلى درجةٍ يبدو فيها المُخرج السينمائي غائباً عن تضاريس المشهد السينمائي، ليس لكونه لا يملك موقفاً تجاه ما يحدث، بل لأنّ طبيعة عمله تفرض عليه مساحات كبيرة للتفكير والتأمّل والاشتغال، قبل كتابة عمل سينمائي وإخراجه.
أغلب الأفلام الوثائقية في العالم التي حاولت إثارة اشتباك آنيّ ومباشر مع الأحداث الدامية التي عاشتها فلسطين وتونس ومصر وسورية أنتجت أفلاماً وثائقية هشّة، وغير قادرة على تقديم جديدٍ سينمائيّ، يُعوَّل عليه فنياً. إذْ على الرغم من قُدرتها على تصوير واقع عربيّ متآكل، فإنها أنتجت، من الناحية الجمالية، أفلاماً تُعرض على الشاشة الصغيرة أكثر من صالات السينما.
أغلب من يُمارسون هذا النوع البصري لا يُفرّقون بين الوثائقي والتلفزيوني. فبسبب حرارة الواقع، تختلط عليهم الأشكال الفنية وضروراتها الجمالية، فتكون الكاميرا آلة تلتقط ما تراه أمامها، لكونها لا تُفكّر في تلك اللحظة، ولا يعنيها الإطار التخييلي الذي يُعتَبر شرطاً جمالياً للعمل الفني. بينما يُصوِّر المخرجون مَشاهد لمستشفيات ومدارس وشوارع ومتظاهرين وصواريخ وأسلحة، فيكون الفيلم ريبورتاجاً تلفزيونياً خالياً من التخييل. ومع أنّ الوثائقي معنيّ بأصالة التسجيل أوّلاً، فالوثائقي المعاصر، رغم ما يتميّز به من هواجس توثيقية تجاه الواقع ـ الذاكرة ـ التاريخ، يُضمر في ذاته بعضاً من التخييل الذي يبدو بارزاً من خلال مشاهد الصمت، على مُستوى التصوير. مثل هذه المَشاهد في الوثائقي تُعطي للمتفرّج إمكانية تفكير وتأمّل، وتدفعه إلى نسج علاقة حميمية مع الفيلم، قوامها الإبداع.
حقّقت السينما الغربية قفزة نوعية في المستويات كلّها، المتعلّقة بالصناعة السينمائية؛ إذْ يُسجّل المُتابع للإنتاج الغربي كيف أنّها أداة سياسية تنتقد الواقع. كلّ الموضوعات تطرح في أفلام ومسرحياتٍ وأغانٍ، في وقتٍ لم تُحقّق فيه السينما العربيّة أبسط شروط الحداثة السينمائية. فحين نُفكّر في استحضار أفلامٍ تتعلّق بالإبادة من بعض عناصر الاحتلال، داخلياً أو خارجياً، لا نعثر على عنوان واحد يُضاهي، في قيمته الفنية ـ الجمالية، "قتلة زهرة القمر" (Killers of the Flower Moon)، الصادر هذا العام، لمارتن سكورسيزي.
هناك عاملان يُسبّبان غياب هذا النوع من الأفلام في العالم العربي: الأوّل، سوء تعريف السينما، وطريقة نظرة العرب إليها، بوصفها بذخاً فنياً، بل إنّ سوء هذا التعريف كرّسته المهرجانات السينمائية التي تقف عند حدود الاحتفال والبهرجة، في حين تبقى المُشاهدة السينمائية مُغيّبة. ساهمت الأنظمة العربيّة في تكريس سينما غايتها الترفيه والابتذال، لا تنتقد ولا تُفكّر ولا تتأمّل طبيعة الشروخ والندوب التي تطاول الواقع العربي. فلا غرابة أنْ تكون أفلام مصرية عدّة ممسوخة وباهتة، تُطبّل للنظام، وتتستّر عليه، سياسياً واجتماعياً.
الأنظمة السياسية استفادت من السينما، وليس العكس. فأغلب أشكال الدعم الممنوحة في البلاد العربية يأتي من رغبة هذه الأنظمة في أنْ تُصبح السينما دعامة ديبلوماسية لها، وليس سلاحاً شعبياً يقف في وجهها. السينما، في نظر الدول، تلعب دوراً دبلوماسياً قوياً، أكثر ممّا يلعبه السفراء في بلدانٍ أخرى، وهذا بسبب السحر الذي تُمارسه السينما على المُتفرج، والمكانة التي أضحت تتنزّلها في النسيج الاجتماعي العالمي، بوصفها مطلباً وجودياً يومياً، وليس مجرّد فنّ نستهلكه قبيل النوم. الثاني، الذي يُساهم في تغريب سينما الإبادة، أنّ المخرج السينمائي يُدرك جيداً أنّ أيّ فيلمٍ ينتقد الاحتلال الأجنبي، بطريقة فجّة ومُباشرة، أو يجعل البلد في موقف مُساعدٍ للاحتلال، يُمنع غالباً. الأنظمة، بحكم مصالحها الدائمة والمُشتركة مع عناصر الاحتلال، تتجنبّ غالباً دعم هذا النوع من الأفلام وإنتاجه، لا لأنّها تخاف من فِتَن الاستعمار وأهواله مرّة أخرى، بل لإدراكها مدى قيمة مصالحها السياسية والاقتصادية لديه. لذلك فأغلب الأفلام الوطنية التي أنتجت في بلدان مغاربيّة، وانتقدت مباشرة الاستعمار، ظلّ يخدم مصلحة الدولة أكثر من كونه يُفكّر في إنجاز عمل سينمائي مفتوح على رؤى جمالية وصناعة فنية، وذلك لأنّ أغلب تلك الأفلام السينمائية، على اختلاف مُكوّناتها وتنوّع مقارباتها البصريّة، اتّخذت بعداً وطنياً وليس فكرياً.
لذلك، حين تريد السينما التحدّث بلسان بلدٍ أو مقاومٍ أو فقيه أو سياسيّ، تتحوّل إلى سينما تربوية، غايتها التعليم والموعظة. بينما يبقى هاجس السينما التخييل، وطرح مزيدٍ من الأسئلة القلقة والجريحة، المنسابة عبر اللاوعي، والمُخترقة كافة الحدود والسياجات والسراديب التي تُقيمها الأنظمة الفاشية، لحصار السينما، وتقليص منسوب حرية التعبير فيها.