مع كلّ الخيال الذي فيه، تظلّ السينما لصيقة الواقع، تعكسه فنياً وجمالياً، ولا تلتزم تغييره بالضرورة، وليست مطالبة أساساً ـ لكونها فناً جمالياً ـ بهذا الدور، المنوط تاريخياً بقادة سياسيين ومفكّرين، يؤدّون دوراً في توعية شعوبهم، وحثّها على تغيير واقعها، أو الانتفاض عليه. التصاقها بالواقع، واستمداد حبكات كثيرة منه، أوكل لها أحياناً مهمة المشاركة في كتابة السرديات التاريخية الكبرى، بلغتها ووسائل تعبيرها الخاصة، وجعلتها (المشاركة) وسيطاً تعبيرياً فعّالاً.
من هنا، جاءت أسباب تحميلها وزر التعبير عن المتغيرات والأحداث التاريخية الدراماتيكية، كالحروب والإبادات الجماعية، وأنْسَتِ الناسَ، حين شرعت في تقديم أفلام تجسّد تلك الأحداث. إنّها في النهاية إنجازات فردية لمبدعين وفنانين، يشتركون في نقل قصص وأحداث على الشاشة بلغة بصرية، تعبّر عن مواقف مخرجيها ومنتجيها من القضايا الوجودية، المعنيّين بقراءتها، والإسهام في بلورة موقف فكري منها. بهذا المعنى، كلّ من تلك الأفلام، في جوهره، إنجاز فردي لمُبدع سينمائي، منطلق في عمله من اعتبارات فكرية وأخلاقية، ومن حصيلة موقفه ورؤيته للعالم، ولما يجري حوله.
ولقِصَر عمر السينما، مقارنةً بتاريخ ظهور بقية الفنون والآداب، فإنّ حجم مساهمتها يبقى قليلاً، نسبياً، في نقل وتجسيد تلك التراجيديات البشرية. لكنّها، مع هذا التوصيف، أحدثت بسرعة لافتة فرقاً كبيراً في مستوى التفاعل معها، مقارنة مع بقية الوسائط التعبيرية الفنية الأخرى. هذا انتبهَتْ إليه باكراً المؤسّسات الثقافية والإعلامية الغربية، والأميركية خاصة، ومصنعها السينمائي الكبير، هوليوود. أدرك أصحابها، بمعونة مُفكّرين وأكاديميين ونقّاد سينمائيين ودارسين لتاريخها، أنّ التراكم يؤثّر في وجدان المتلقّي. لن يترك فيلمٌ واحد ـ عن أي حدث تاريخي كان، ومهما بلغت درجة تراجيديته ـ أثراً عميقاً في المتلقّي/الجمهور، أو أنّه يدوم طويلاً في أذهانه. صحيح أنّه يُمكنه ترك أثر آنيّ، وإثارة أسئلة. لكنّه لوحده، أو حتّى حفنة تشبهه، لن يساهم بفعالية في عملية التراكم البطيئة التي تفضي في النهاية إلى تشكيل وعي جمعي.
القراءة التاريخية للوضع البشري تقول إنّ جُلّ السرديّات الكبرى، في التاريخ، ترسّخت ودامت بفعل تراكمها وتغلغلها في الوعي الجمعي، وهذا يُفسّر بدوره لماذا ألحّت السينما الغربية خاصة على إحداث تراكم مُرتجى من القصص المنقولة عبرها، عن الإبادة/الهولوكوست التي تعرّض لها اليهود من النازيين، في الحرب العالمية الثانية. المفارقة أنّ ما يعتبره البعض، ومنهم العرب، انحيازاً للسرديات التاريخية اليهودية، ينقصهم، وينقص أمثالهم من الذين مرّوا بتجارب مؤلمة، وتعرّضوا لإبادات جماعية، لم تعرف طريقها إلى السينما. وإذا وصلت إليها، ففي الغالب الأعم تأتي عن طريق من أوصل إبادة اليهود إلى العالم، من خلال أفلام اعتنوا بمستويات إنتاجها، وجماليات اشتغالها.
هذا أمر آخر، مهمّ جداً، أدركه صناع السينما الغربيون، واتّفقوا على أنْ لا تراكم ولا تأثير يحدثان إلاّ من خلال الأفلام جيّدة الصنعة. الأمثلة غير قليلة: "ابن شاول" (2020) للهنغاري لاسلو نيميش، و"عازف البيانو" (2002) للفرنسي البولندي رومان بولانسكي، و"الحياة جميلة" (1997) للإيطالي روبيرتو بينيني، و"قائمة شيندلر" (1993) للأميركي ستيفن سبيلبيرغ، وغيرها الكثير. هذا واقع يصعب على آخرين، منكوبين ومعرّضين للإبادة، توفّره عندهم بسبب شحّ إمكاناتهم الإنتاجية أولاً، ولتعويل غريب منهم أحياناً على غيرهم للتعبير عن مآسيهم، ثانياً.
هل هناك عجز إبداعي عن معالجة مآس ومجازر مرتكبة ضد شعوب، بينها الشعب الفلسطيني؟ بدءاً، وقبل مقاربة الأجوبة، هناك سؤال عن عدد الأفلام المنتجة عنها، والمؤثّرة بفعل قوة اشتغالها الجمالي والفني. غير فلسطين، كم من الأفلام عالجت، بفنّية جيدة، مجازر "حلبجة" و"الأنفال"، التي تعرّض لها الشعب الكردي؟ هل هناك جديد مُنتظر لنقل مآسي الأيزيديين ونكبتهم، على أيدي وحوش "داعش"؟ من أين أتت الأفلام الجيدة، المُعالجة لإبادة الأرمن؟ هل يتناسب عددها مع حجم ما حدث؟ إنّها قليلة جداً.
هذا أول ما يأتي عند الإجابة المنتظرة عن أسئلة مطروحة، يُمكن استكمالها بعبارة "وإنّ أغلب المُنجز عنها مُموّل من جهات إنتاجية وسينمائية غربية". يُمكن ملاحظة ذلك بسهولة، عند مراجعة الأفلام التي تناولت الحرب الأهلية في رواندا، وراح ضحيتها مئات آلاف البشر. في السياق، هناك "فندق رواندا" (2004) للأيرلندي تيري جورج، و"أشجار السلام" (2021) للأميركية آلانا براون، الذي يثير معه استغراباً أكبر: هل كان ينبغي على الفلسطينيين واللبنانيين انتظار ظهور "فالس مع بشير" (2008)، للإسرائيلي آري فولمان، ليُخبر العالم نيابة عنهم قصّة ووقائع مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، بالاشتراطات السينمائية المتحقّقة فيه، فنياً وجمالياً؟ هل يصحّ أنْ يبقى وثائقي مي مصري، "أطفال شاتيلا" (1998)، العميق والجميل، يتيماً، في انتظار من يتشارك معه، ويؤسّس تراكماً سينمائياً، يحقّق وعياً جمعياً متعاطفاً مع ضحاياها، ويقبل سرديّتها التاريخية الفلسطينية اللبنانية؟
هناك حقيقة تؤكّد أنّ الفرق في مستوى تطوّر السينما، في كلّ بلد، له أثر قوي في تأدية ذلك الدور. على هذا، تشير تجربة البوسنة والهرسك على الأقل، حين أنجز سينمائيّوها أفلاماً مهمّة، ربما آخرها "إلى أين تذهبين يا عايدة" (2020)، للبوسنية ياسميلا زبانيتش، عن مذبحة "سربنيتسا" التي ارتكبها الصرب ضد أهلها. ليس أقل منها أهمية السينما التشيلية التي ألحّت كثيراً على كتابة نصوص مهمّة وكثيرة، عن المجازر التي أمر بارتكابها الجنرال أوغستو بينوشيه ضد أبناء الشعب التشيلي، بعد انقلابه على الرئيس سلفادور ألليندي وحكومته المنتخبة. لعلّ من بين أهم صُناعها المخرج باتريسيو غوزمان، بفيلميه المُعبّرين عنها: "حنين الضوء" (2010)، و"الزر اللؤلؤة" (2015).
عند مراجعة ما أنجزته السينما، والانتباه إلى مقدار تجسيدها المجاز والإبادات الجماعية، فنياً وفكرياً، يُمكن القول إنّ لها فضلاً في تعريف العالم بها، من دون شكّ. من هنا تتأتّى أهمية التوقّف، نقدياً، عند المُنجز السينمائي العربي، والبحث في مقدار مساءلة صُنّاعها للقضايا الإشكالية، التي تخصّ تاريخ منطقتهم وشعوبهم، والتي لا يُمكن معالجتها سينمائياً، بمقدار عال من المسؤولية الأخلاقية، إلا بالرهان على المعرفة والاشتغال الجمالي. فالفيلم الجيّد وحده قادر على طرح الأسئلة الإشكالية، ويُسَهّل على متلقّيه البحث عن أجوبة لها.
المتغيرات الحاصلة في المشهد السينمائي العربي الحالي تشير إلى بروز مواهب وقدرات سينمائية جديدة، مرجعياتها موصولة بالمنجز السينمائي العربي الأسبق، وبانفتاح على الجديد الحاصل في عالم السينما، وإدراكهم أنّه، من دون ذلك، لا يمكن لأفلامهم أنْ تلعب دور الوسيط التعبيري الفاعل في كتابة سردياتهم التاريخية، فنياً. هذا درس مستخلص من تجربة السينما العالمية، حين تصدّت، منذ وقت باكر، لأسئلة خطرة، كالإبادات البشرية، والمجازر الجماعية.