قناة "إم تي في" الأميركية: سوق استهلاكي كبير يُدعى حياةً

06 اغسطس 2021
يوصف تلفزيون الواقع بأنه متحف التدهور الاجتماعي (فرازر هاريسون/Getty)
+ الخط -

تحتفل قناة الـMTV الأميركية، بذكرى تأسيسها الأربعين، عبر نشر التصميم الجديد لشعارها الشهير، "رجل القمر"، حيث يظهر رائد فضاء على سطح القمر، ومعه علم القناة مغروساً في مكان ما بجانبه.
كانت لقطة "ناسا" للهبوط التاريخي على سطح القمر، مضافًا إليها علم القناة، هي أولى اللقطات التي ظهرت على شاشة المحطة منذ تأسيسها في عام 1981، وبقيت مستخدمة حتى وقوع كارثة تحطم مكوك تشالنجر في عام 1986. في مقابلة، هذا الأسبوع، مع وكالة أسوشييتد برس، قال رئيس مجموعة "إم تي في" ومديرها التنفيذي كريس مكارثي، إن صورة السفر إلى الفضاء تتلاءم تمامًا مع روح جمهورها الشاب، ويكمل مكارثي: "جيل زد Z هو إلى حد بعيد أحد أكثر الأجيال إثارة للاهتمام وإبداعًا وتفاؤلًا. لذا، فكرنا بأن نعود إلى الأصول، وأن نفعل ذلك مع وكالة ناسا".
بدأت القناة مشروعها كقناة كابل موجهة للشباب. "تلفزيون موسيقي"، يركز بشكل أساسي على عرض الفيديوهات الموسيقية، تحت شعار "عين على الصوت"، وقدمت إلى التلفاز موسيقى وثقافة الروك بنجاح خلال فترة رواجهما في أوائل الثمانينيات. ففي تمام الساعة 12:00 من 1 آب/ أغسطس 1981، أنطلقت قناة "إم تي في" بالعبارات الآتية: "سيداتي وسادتي، نقدم لكم الروك آند رول". موسيقى الشباب اليافع آنذاك، والتي لم تفلح حتى تلك اللحظة بالصعود إلى دفة التلفاز، ولا تمكن هذا الأخير من استقطاب جماهيرها الشابة والحيوية، إذ تخللت كل محاولة لعرض أغنية روك آند رول عبر التلفاز مشاكل تقنية، أضعفت من جودة الأغنية بشكل لا يمكن تجاهله، وتصادمات شديدة مع العقول المحافظة ومع أجهزة الرقابة.
لكن القناة الأميركية نجحت في سعيها بشكل لافت؛ فهويتها الشبابية، الوجوه الجديدة التي عرضتها، ونهجها التجريبي، وإتاحتها الفرصة للفنانين الأقل شهرة، استهدف في بداية ظهورها جمهورًا تراوحت أعمار أبنائه بين 12 و34 عامًا، فعرضت القناة أغاني لفرق موسيقى الروك الثقيل والهيفي ميتال، إلى جنب الروك الناعم والكلاسيكي؛ إذ مثّلت منبرًا لبرايان آدمز، وبيلي آيدول، وبيلي جول، وبرنس، وميتاليكا، وإيريك كلابتون، وديفيد بوي، وليندا رونستادت، وغيرهم. فضلًا عن الموسيقى، اهتمت القناة بثقافة الفيديو كليب بشكل ريادي ولامع، فضخت أموالًا كبيرة في سبيل صناعة الفيديو وإخراجه وإنتاجه، ودرّجت عادة الرقص في الفيديوهات، وسعت نحو تقديم عرض موسيقي شامل، يدمج بين الصوت والصورة. وأطلقت حملات التوعية الجنسية المتنوعة استجابة لانتشار فيروس الإيدز.

اهتمت القناة بثقافة الفيديو كليب بشكل ريادي ولامع، فضخت أموالًا كبيرة في سبيل صناعة الفيديو

تلقت القناة العديد من الانتقادات حول عدم عرضها فيديوهات لفنانين ملوني البشرة. وكان تعليلها الوحيد والمتكرر في وجه تلك الادعاءات: "لسنا عنصريين، لكن السود لا يهتمون بموسيقى الروك، وهذا هو السبب". كُسر حاجز اللون تدريجيًا مع أغنية "بيلي جين" لمايكل جاكسون، مع عدم رضا العديد من الفنانين السود المطالبين بسحب الأغنية فورًا.
تنوعت محتويات القناة بشكل تدريجي بعدها؛ فاخترقتها موسيقى الهيب هوب والراب والروك البديل والموسيقى الإلكترونية، بدافع الاستجابة لرغبة المتلقين. لم تعترف الـ"إم تي في" بتقصيرها إلا قبل أيام قليلة فقط، مع ذكرى إطلاقها الأربعين؛ إذ صرح مكارثي بأنه "من أكبر الأخطاء التي ارتكبناها في السنوات الأولى، أننا لم نشغل موسيقى متنوعة بما فيه الكفاية... ولكن الشيء الجميل الذي تعلمناه دائمًا في MTV أنه لا مشكلة لدينا في امتلاك أخطائنا وتصحيحها بسرعة، ومحاولة القيام بالشيء الصحيح".
إلى جانب عرضها للأنواع الموسيقية المختلفة، شكلت أوائل التسعينيات محطة هامة في تاريخ القناة، فتم في تلك الفترة عرض أول البرامج الواقعية Real World وRoad Rules عبرها. وفي السنوات التالية، وصولًا إلى اليوم، خففت القناة بشكل كبير من اهتمامها بالموسيقى البديلة والإلكترونية، وركزت على موسيقى البوب وأيقوناته، من بريتني سبيرز، جيسيكا سيمبسون، إلى كريستينا آغيليرا وماندي مور. وتوجهت بشكل كامل إلى برامج الواقع للمراهقين والشباب، فبيّن بحثها الذاتي أن أكثر من 50% من جمهورها تراوح أعمارهم بين 12 و24 عامًا، وأن هذه المجموعة شاهدت ما متوسطه 30 دقيقة إلى ساعتين يوميًا من برامج المحطة. القناة التي سعت إلى أن تكون وسيطًا سمعيًا بصريًا، هدفه الأول هو خدمة صناعة الموسيقى، تحولت الآن إلى واحدة من أكثر الأدوات تأثيرًا على الثقافة الشعبية في أميركا والعالم، من خلال برامج الواقع التي تحمل بصمتها المميزة.

شكلت أوائل التسعينيات محطة هامة في تاريخ القناة، فتم في تلك الفترة عرض أول البرامج الواقعية

مع بداية الألفية الثالثة، شكلت القناة سلسلة من المسلسلات التي وعدت بجلب تجارب الحياة الواقعية لمجموعة متنوعة من الشباب إلى منازل ملايين المشاهدين، بوصفها برامج تدور حول "أناس حقيقيين، غير موجّهين، يشاركون حياتهم"، حيث يُسجل كل جانب من جوانب حياتهم بواسطة عدد كبير من الكاميرات. عروض جذابة للمتلصصين التلفزيونيين مع افتتان خاص بالجيل X، والنتيجة: مسلسل "عن لا شيء" يشاهده 60 مليون شخص في 52 دولة في كل أسبوع، بحجة التجربة الليبرالية التي تقدم رحلة حسية تجمع بين المشتركين والمشاهدين.
وصف الممثل والمخرج السينمائي غاري أولدمان تلفزيون الواقع بأنه "متحف التدهور الاجتماعي"، ورأى فيه الصحافي تيد كوبل مؤشرًا لنهاية الحضارة. فإذا ما تجاوزنا فكرة عدم بلوغ المتلقي سن النضج (12 عامًا حسب إحصائيات القناة نفسها)، تبقى أمامنا الكثير من الانتقادات التي تواجه البرامج الواقعية. أولها هو استخدامها لكلمة "الواقع". فمعظم برامج القناة تصور حياة فاحشة الثراء، تقودها قلة قليلة من الناس، ويتفرج عليها الباقون بوصفها جنة لن يدخلوها أبدًا. وإن كنت فقيرًا، فيكفيك أن تظل على الجانب الآخر من واجهة المحل.
هكذا، تُحول البرامج الواقعية الحياة نفسها إلى سوق استهلاكي كبير، يصعب الحصول فيه على شيء ما لم يكن سلعة. النساء مستهلكات نمامات، يسعين إلى تحقيق صورة الجسد المثالية على حساب كل شيء. الرجال ذكوريون، منتجون، والمراهقون متطلبون، سخيفون ومتنمرون في غالب الأحيان. البيض مزعجون، السود عنيفون، وغيرها من الصور النمطية التي تكرسها تلك البرامج، عبر أحداث مصممة سلفًا بطرق مخادعة ومحتالة، إذ كشف برنامج Reality TV Secrets عن العديد من الحيل المضللة لمنتجي تلفزيون الواقع في MTV، كإنشاء خط زمني خاطئ وتشويه سلوك وأفعال المشاركين، وإظهارهم في صورة نمطية خيرة أو شريرة سترافقهم مدى الحياة.
وبعيدًا عن الأذى المحتمل، أو شبه المؤكد، الذي تسببه تلك البرامج المفرغة من المحتوى لمشاهديها، فإنها تتسبب بضرر شديد للمشاركين فيها على حد سواء، وذلك عبر جعلهم ضحايا لـ"15 دقيقة من الشهرة"، وهو مصطلح يصف الشهرة العابرة سريعة الزوال، فسرعان ما يلتمع نجم برنامج الواقع حتى يعود لينطفئ مجددًا، كما حدث مع سنوكي، ما لم يجد وسيلة ما للتشبث بتلك الشهرة الزائلة.
المشكلة في تلك البرامج أنها تنتج مئات المشاهير، من دون وجود أفق واضح لما يمكن أن يفعلوه؛ إذ يُحدَّد هذا الأخير، بحسب مدى نفوذهم وامتلاكهم للنقود. المثال الأشهر على ذلك، هو دونالد ترامب ذاته، الرجل الذي ساهمت برامج الواقع الأميركية بصنعه، وتمكن من الوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة في آخر الأمر.

خلافًا لبعض أصحاب الحظ، غالبًا ما تنتهي حياة الشهرة الزائفة التي يعيشها أبطال المسلسلات الواقعية بشكل سريع

وخلافًا لبعض أصحاب الحظ، غالبًا ما تنتهي حياة الشهرة الزائفة التي يعيشها أبطال المسلسلات الواقعية بشكل سريع. والأمثلة على ذلك كثيرة، فلنجم الواقع "تاريخ صلاحية" أيضًا، بوصفه صورة حية عن مفهوم السلعة، فبغياب "المنتج" الفني الحقيقي، يتحول النجم ذاته إلى مُنتج. المادة المسوق لها هي حياته، ومادته الخام هي جسده.
لا يسمح للمشاركين بارتداء الملابس التي يختارونها، فألوان ثيابهم يجب أن تتناسب مع المشهدية ومع الكاميرا، كذلك لا يسمح لهم بإظهار ماركات هذه الثياب، إلا بقرار من منتجي العمل أنفسهم. هكذا، تتحول رواية ديستوبية عن المراقبة، إلى صيحة فنية يشاهدها ملايين الناس يوميًا.
وعلى الرغم من إجماع الكل تقريبًا على سوء البرامج الواقعية، وعلى كونها إهانة حقيقية لكل من المتفرج والمشارك، إلا أنها تُتابع بشكل واسع النطاق في أميركا وفي العالم، ما يجعلنا نطرح السؤال الأهم: لمَ نشاهدها؟ لا يزال الجواب غير محسوم حتى الآن.
يستفز تلفزيون الواقع لذة التلصص لدى المتلقين، ويحقق تلك الرغبة الدفينة وغير المعلن عنها برؤية المواقف غريبة الأطوار، وبتعريض الآخرين للإهانة، ويستجيب لهوس الأفراد العاديين في ممارسة حياتهم أمام الكاميرا ومن أجلها؛ العقلية ذاتها نجدها لدى نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لا شيء يستحق أن يعاش ما لم يشهد عليه آخرون، وإن نجح الآخرون في التحول إلى نجوم، من دون فعل شيء ذي قيمة، فربما بوسعنا نحن أن نفعل ذلك أيضًا!
خلافًا لذلك الهوس المعاصر بـ"تحقيق النجومية" من دون مجهود، يعتقد بعض من النقاد أن تلك البرامج تمجد السلوك العنيف والجنحي الممنوع في الحياة اليومية العادية، والمحمي بـ"تلفيق" الواقع المصور عبر تلك البرامج، إذ يمضي فريق مسلسل The Jersey Shore فترة صيفية كاملة في الشرب الهستيري، والمشاجرات الجسدية، حتى يتم القبض على أفراده في النهاية. ما مقدار "الحقيقة" في هذه "القصة الحقيقية"؟ لا أحد يعلم. لكن المخاطرة تغري من يسعى إليها.

تحقق برامج "إم تي في" شهرة واسعة، وأرباحاً هائلة، حتى يومنا هذا، الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير في سلوك المتلقي، والذي تزعم القناة أنه الشاب/ة اليوم، وبسلوك منتجي تلك البرامج، والعلاقة المتبادلة بينهما، إلى جانب وسائل الشهرة الجديدة التي ربما تجبر قناة الـMTV وغيرها من القنوات التلفزيونية على التكيف مع عصر جديد لحماية نفسها من الاندثار.

المساهمون