استمع إلى الملخص
- تقدم السلسلة شخصية موسى بصورة غاضبة ومشوشة تحت تأثير قوة إلهية، مما يثير تساؤلات حول دوافع وخيارات موسى الشخصية ويدفع المشاهد للتشكيك في الرواية الدينية المقدمة.
- تثير السلسلة نقاشات حول الصورة الإلهية في الديانة اليهودية، مستشهدة بأعمال فرويد ويونغ، وتربط بين القسوة الإلهية والأحداث العنيفة الجارية، مثل العدوان على قطاع غزة، مما يجعلها مادة لإعادة النظر في الروايات التوراتية وتأثيرها.
هناك دائماً لعبة التوقيت؛ أن يُبث فيلمك في موسم الصيف مثلاً، أو غداة حدث كبير يكون ذا صلة بموضوعة فيلمك، فماذا عن "الوصية: قصة النبي موسى" الذي تبثه منصة نتفليكس منذ مارس/ آذار الماضي، وهو من إنتاج شركة كارغا سيفن التركية بالمناسبة؟ تتناول السلسلة القصيرة في ثلاثة أجزاء (النبي، العقاب، الأرض الموعودة) قصة النبي موسى منذ ولادته إلى خروجه وبني إسرائيل من مصر، ويمتد زمن السلسلة في النص التوراتي من سفر الخروج إلى سفر التثنية.
للوهلة الأولى قد يذهب الظن بالبعض إلى أن توقيت البث في صالح إسرائيل التي تشنّ عدواناً وحشياً على قطاع غزة، وإلى أن السلسلة قد تكون جزءاً من الآلة الإعلامية الضخمة التي تواكب حرب الإبادة الحالية، لإظهار بني إسرائيل في صورة الضحايا في الماضي كما الحاضر، لكن السلسلة تفعل عكس ذلك تماماً. ولا يعود الفضل في هذا إلى تعليقات من يفترض أنهم مؤرخون ورجال دين ينتمون إلى الأديان الثلاثة الكبرى، بل إلى تناقض بعض هذه التعليقات مع السياق الدرامي الذي وُضِع فيه موسى. فالسلسلة تقوم على الإنتاج الهجين ديكو-دراما، ويبدو أن مساري هذا النوع من الإنتاج (الوثائقي والدرامي) كانا في بعض الأحيان متنافرين، فبدت تعليقات المؤرخين والدارسين نوعاً من السخرية المبطنة أو التمجيد المفرط والتبرير غير المقنع للرواية الدينية التي تخالف المنطق، ما قد يدفع المشاهد إلى التشكيك في الرواية، والمقال غير معنيّ هنا بأي مقارنة بين الروايات، ولا بإثبات أو نفي هذه المعلومة أو تلك مما ورد في السلسلة.
أظهرت السلسلة موسى غاضباً غالباً، ومشوّشاً، في سياق قوة دفع جبّارة يقوم بها إله لا يتورع عن القيام بأي شيء لنصرة العبرانيين، بما في ذلك القتل الجماعي، الأمر الذي أضر بالبناء الدرامي لشخصية موسى نفسه، فلم يفلح في أن يظهر إنساناً حقيقياً يعاني من تناقضات شخصية قد تدفعه إلى خيارات قصوى وقاسية، تدفعك إلى التعاطف معه، وسبب ذلك أن هذه القوة الغيبية تؤثر بمسار شخصية، بما يسلبها الدافع الذاتي للقيام بالفعل، باستثناء مشهد قتله أحد المصريين. وبهذا فشل البناء الدرامي في تقديم موسى إنساناً، وفشل في تقديمه "أداة" لإنفاذ الإرادة الإلهية بما ينسجم مع تحوّلاته، من أمير مصري إلى قاتل، فراعي ماشية، فنبي يقود ثورة إيديولوجية وطبقية ضد المؤسسة الفرعونيّة القوية والراسخة.
هذا وسواه يدفع المشاهد إلى إعادة النظر في الرواية كلها، وقد يدفعه إلى الربط بين هذا الإله الدموي وما يحدث من مجازر في قطاع غزة، فالأساس الذي تصدر عنه هذه الأفعال في الحالين واحد، وهو توراتي كما نعلم.
قد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى كتابي سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ "موسى والتوحيد" و"الإله اليهودي"، إذ لاحظ فرويد أن الإله اليهودي آنذاك كان "يهوه"، وهو إله البراكين، بينما لاحظ يونغ أن هذا الإله لم يكن مكتمل البناء، ولا يعي صفاته العلوية، ومنها أن يكون عادلاً لا منتقماً وغاضباً طوال الوقت، وهو ما يفسر انتقال قسوة هذا الإله وغضبه وعدم اكتمال شخصيته إلى موسى نفسه.
انظر إلى ما تراه في السلسلة: يولد موسى موعوداً بالقتل، فتضعه أمه في سلة وترميه في النيل، فتلتقطه ابنة الفرعون، وتقوم برعايته في القصر، وهذا يعني أننا إزاء أمير مصري وليس عبرانياً، لكن ذلك لا يجعله والإله اليهودي يتسامحان. يقتل موسى أحد المصريين ويفر إلى مدين، قبل أن يعود ثانية إلى مصر فيعفو عنه الفرعون، لكن هذا لا يجعله ممتناً، بل يزيد من عناده. وعندما يبدأ الصراع المباشر بين موسى والفرعون، وهو صراع بالوكالة بين آلهة، لا يتورع إله موسى عن اللجوء إلى أسوأ أشكال العقاب الجماعي لإجبار الفرعون على الإذعان، ألا يذكرنا هذا ببنيامين نتنياهو؟ تحويل مياه النيل إلى الدم، أي قطع إمدادات المياه، ثم اللجوء إلى الأوبئة، الضفادع والقمل والذباب، وتحويل النهار إلى ليل، قبل الوصول إلى الذروة، وهي قتل كل "بكر" في عموم الديار المصرية. ذلك كله يذكر بما يفعله نتنياهو ويوآف غالانت في أيامنا هذه التي تبث فيها "نتفليكس" سلسلتها. ليس ثمة من توقيت أسوأ لو كان الأمر بيد إسرائيل في ما أظن.