في وداع دونالد ساذرلاند... 60 عاماً من عدم خشية أي دور تمثيلي

21 يونيو 2024
دونالد ساذرلاند في لوس أنجليس، 2013 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- وفاة الممثل الكندي دونالد ساذرلاند قبل شهر من عيد ميلاده الـ89، تبرز مسيرته الفنية المتناقضة بين الأعمال الأوروبية والهوليوودية، ونجاحه في جذب الجماهير عبر أفلام حققت إيرادات بمليارات الدولارات.
- نقاش حول التناقض في أدوار ساذرلاند بين الأعمال الفنية العميقة والتجارية، مع التأكيد على أن بعض أفلامه التجارية تناولت نقداً للواقع الإنساني، ما يعكس التحديات في موازنة بين الإبداع ومتطلبات الصناعة.
- تقدير كيفر ساذرلاند لمرونة والده في تقبل الأدوار المتنوعة، معتبراً حياته مثالاً للعيش الجيد والشغف بالتمثيل، ما يُظهر دونالد ساذرلاند كفنان متنوع المواهب، قادر على التأثير في السينما بأدواره المتعددة.

وفاةٌ ثالثة في ثلاثة أيام. مهنة الصحافة والنقد السينمائيّين، في حالةٍ كتلك، مُنهِكةٌ، فالموت قاسٍ، واستعادة تاريخٍ من اشتغال، متنوّع الأشكال إلى حدّ التناقض أحياناً في أنواع الأدوار التمثيلية، غير سهلة، رغم أنّ في التاريخ نفسه لحظات مضيئة أكثر من غيرها، والعادة الصحافية، العربية والأجنبية، تركن إلى تلك اللحظات من دون غيرها، لأنّها تعكس محطّات أساسية في مسارٍ أدائي، وتمتلك شهرةً عند مهتمّين ومهتمّات بالفنّ السابع، وامتداداته في الحياة والاجتماع والعلاقات والمشاعر. الإنهاك ينعكس أيضاً في بحثٍ عن المختلف في كتابةٍ تمزج رثاء بوداع وتحية ونقدٍ، إنْ يكن سهلاً جمعُ هذه كلّها في مقالة واحدة.

وفاةٌ ثالثة يُعلَن عنها في 20 يونيو/ حزيران 2024: رحيل الممثل الكندي دونالد ساذرلاند، قبل أقلّ من شهرٍ واحد على بلوغه 89 عاماً (17 يوليو/ تموز 1935). استعادة سيرته تكشف تناقضاً فيها، بين "سينما مؤلّف" أوروبية (كما في عنوان "لو موند" الفرنسية، غداة وفاته)، وصناعة هوليوودية، وفي الصناعة تلك، رغم تجاريّتها واستهلاكية بعض إنتاجاتها، تُتقن فنّ الصنعة ومُتعة الفرجة، وساذرلاند الأب (ابنه كيفر ممثل سينمائي وتلفزيوني، له مكانة وشهرة ثابتتان في الإنتاج البصري) مُدركٌ قواعد تلك الصُنعة، فيبرع في تأدية وظيفة، يُضفي عليها ما يمتلكه من حساسية تمثيلية، مُعتاد عليها منذ ستينيات القرن الـ20.

والتناقض هذا يضعه في حيّز، جانبٌ منه (الاستهلاكي أكثر من التجاري) غير مُفضَّل في قراءات نقّاد ومتابعاتهم، رغم أنّ في بعض التجاري مثلاً ما يحثّ على تفكير في راهنٍ بشريّ، بالذهاب بعيداً في الزمن إلى الأمام، بما يمكن أنْ يحمله الزمن المقبل من تقنيات وأنماط عيش، واضحٌ أنّ تأسيسها حاصلٌ في ذاك الراهن نفسه. "ألعاب الجوع"، بحلقاته الأربع الأولى (هناك حلقة خامسة، غير مُشارك فيها)، مثلٌ على ذلك: ميزانية إنتاجية تبلغ 493 مليون دولار أميركي، في مقابل إيرادات دولية تبلغ مليارين و980 مليوناً و848 ألفاً و943 دولاراً أميركياً. أرقامٌ تقول إنّ نجاحاً تجارياً يحصل مع نصّ سينمائي يغوص في أحوال العالم، عبر شبّان وشابات يمارسون لعبة تلفزيونية تتحوّل إلى مصيدة، تدفعهم إلى ارتكاب أفعال جُرمية وخطرة، لتحقيق نزوات نظام توتاليتاريّ مستقبليّ.

 The Hunger Games: Mockingjay Part I، عام 2013 (موراي كلوز/ Getty)
خلال تصوير The Hunger Games: Mockingjay Part I، عام 2013 (موراي كلوز/ Getty)

النصّ السينمائي مقتبس من ثلاثية بالعنوان نفسه، للأميركية سوزان كولينز (1962)، صادرة في الأعوام 2008 و2009 و2010، إضافة إلى كتاب رابع عنوانه "أغنية الطيور المغرّدة والثعابين" (2020)، يروي السابق على أحداث الثلاثية. مشاركة ساذرلاند الأب في أفلامٍ كهذه (الأول لغاري روس، والثلاثة اللاحقة عليه لفرنسيس لورنس، مُنتجةٌ بين عامي 2012 و2015) منبثقةٌ من نظام عمل سينمائي في الصناعات الكبرى، يُحتّم على ممثلين وممثلات تحديداً الموافقة على أفلامٍ غير متوافقة مع حِرفية وإبداع يمتلكونهما، ما يجعل بعضهم وبعضهنّ على الأقلّ يوظّفون خبرات وتدريبات وتراكمات في تلك الأدوار ـ الشخصيات، التي تكشف براعة أداء، من دون أنْ تُقدِّم جديداً أو إضافة. وهذا غير مطلوبٍ دائماً، فالتجاريّ، المُطعَّم بتفكيكٍ مبطّن لأحوال ووقائع وتفاصيل عيش، يحتاج غالباً إلى تلك البراعة في صُنعه، وإنْ من دون جديد وإضافة.

هذا يؤكّده كيفر في وداع والده، إذْ يكتب على منصة إكس، بُعيد لحظات من الوفاة، إنّ دونالد "لا يخيفه أبداً أي دور، إنْ يكن جيداً أم سيئاً أم قبيحاً فهو يُحبّ ما يفعله، ويفعل ما يحبّه"، مُعتبراً أنّه "لا يمكن المطالبة بأكثر من ذلك"، فهذه، بالنسبة إلى كيفر، "حياة مُعاشَة جيداً". أهذه قناعةٌ بأنّ المهنة تبقى مهنة قبل أي شيءٍ آخر، والباقي تفاصيل يحقّ للممثل والممثلة استخدامها أو عدم استخدامها، مع أنّ في تلك التفاصيل بهاءً وسحراً يُمكن إظهارهما، والتفنّن في صُنعهما؟

لكنّ حصر اشتغال دونالد ساذرلاند بالجانب التجاري فقط غير سليمٍ، وغير واقعي. فله، في سنين ماضية، ما يضعه في مصاف ممثلين مؤثّرين في صُنع أفلامٍ، لاشتغالهم في أفلامٍ مؤثّرة في سيرة الفن السابع. أو على الأقلّ في أفلامٍ تُتيح إظهار مكتسبات أدائية، وتقول بعض غليانٍ حاصلٍ في ذاتٍ وعالمٍ. له مع الإيطاليّين فيديريكو فيلّيني وبرناردو برتولوتشي فيلما "كازانوفا" (1976) و"1900" (1976)، ومع الأميركي روبرت ريدفورد "أناس عاديون" (1980). تنوّع أدواره، في هذه الأفلام مثلاً، يكشف إتقاناً يتجاوز المهنيّ البحت إلى الأبعد من نفسٍ وروحٍ، وإلى الأجمل في اقتناص كلّ المُتاح لجعل كلّ دور ـ شخصية تفرض ما لديهما من مقوّمات بشرّية حيّة، على أفرادٍ يُستلّ بعض حكاياتهم من واقع واختبار.

دونالد ساذرلاند في  نيويورك، عام 1970 (Getty)
دونالد ساذرلاند في نيويورك، عام 1970 (Getty)

هناك أيضاً "اثنا عشر قذراً" (1967)، للأميركي روبرت ألدريتش: إضافة إلى رصيدٍ، أمْ تأسيس رصيدٍ تُكشف أوراقه لاحقاً، في تنويعاتٍ سينمائية مختلفة؟ ماذا عن M*A*S*H للأميركي أيضاً روبرت ألتمان (1970)؟

في وداع دونالد ساذرلاند، تُعنون "لو فيغارو" الفرنسية (20 يونيو/حزيران 2024) تقريرها (الذي تُشارك فيه وكالة فرانس برس) باعتبار دونالد ساذرلاند "أسطورة السينما الهوليوودية". هذا يستدعي نقاشاً، يرتبط بأوصافٍ تُمنح لشخصيات عامة، خاصة تلك التي تعمل في صناعة السينما. ما معنى أسطورة؟ كيف يكون فردٌ أسطورةً؟ إنْ يكن المقصود جمالاً في الشكل، فهذا غير حاضرٍ في الراحل، ذلك أنّ "شكله الجسدي" بعيدٌ "من أنْ يجعله ممثلاً أوّل"، رغم تأديته أحياناً "أدوار بطولة". هذا غير مانعٍ إياه من امتلاك "مكانةٍ تؤهّله للاختيار في سينما سبعينيات القرن الـ20" (لو موند، 21 يونيو/حزيران 2024): لاحقاً على تلك الفترة، "يقتصر الممثل الكندي على أدوار داعمة، ويستمرّ في تخليد ذكريات روّاد السينما" (لو موند).

أدوار داعمة (وصفٌ آخر للأدوار الثانية)؟ هذا تمرينٌ على ابتكار ما يجعل كلّ دور داعم أشبه بدور أول. لائحة أفلامه، التي يبدأ التمثيل فيها مطلع ستينيات القرن المنصرم، طويلة للغاية، تُضاف إليها أعمالٌ تلفزيونية (أفلاماً ومسلسلات). نتاجٌ حافلٌ بما يُثير مُتعاً ويطرح تساؤلات، وحضورٌ يجعل من لا جمال الشكل معبراً رائعاً إلى جوهر ذات، وقلق روح، وفرح عيش، وارتباك علاقات.

المساهمون