"فيكام 2023": دورةٌ زاخرةٌ وملهمة تجمع عالم التحريك

19 مارس 2023
"دنيا وأميرة حلب": ويلات الحرب السورية وأهوال الهجرة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

بعد بلوغه سنّ النضج  في دورته الماضية، جاءت الدورة الـ21 (3 ـ 8 مارس/آذار 2023) لـ"المهرجان الدولي لسينما التحريك بمكناس (فيكام)" لتؤكّد منحى التطوّر، الذي يحرّك طموحه ودواليب اشتغاله، مع القيادة الفنية لمحمد بيوض، وإشراف "المعهد الفرنسي بمكناس"، ممثّلاً بمديره المنتدب الجديد فابريس مونجيا، وشراكة مع "مؤسّسة عايشة"، برئاسة مَردوكي دوفيكو.

4 عوامل تُفسّر تفرّد المهرجان، والمكانة الخاصة التي يحظى بها في خريطة التظاهرات السينمائية المغربية:

تخصّص ثيمته، والدور الحاسم الذي لعبه في إخراج التصوّر السائد عن هذا النوع التعبيري الأساسي، من مخارج "الرسوم المتحرّكة"، والتوجّه الحصري إلى فئة الأطفال (على أهميته)؛

روح التطلّب، التي تطبع اختياراته الفنية، في البرمجة والتنظيم (جودة العروض، تخصّص اللجان ونزاهتها، تكوين المخرجين الشباب ومرافقتهم في تطوير مشاريعهم، المكانة الممنوحة لعروض المدارس، المستوى الرفيع للّقاءات وتنوّعها)؛

الثقة التي يحظى بها لدى مبدعي سينما التحريك، الذين يحرصون على حضوره لتقديم جديدهم، أعمالاً منجزةً ومشاريع، إلى جمهور المغرب، حتى أضحى موعداً في أجندة مبدعين كبار، كميشال أوسلو، أو مرجعاً عند أسماء وازنة، كالبرازيلي آلي أبريو (صانع تحفة "الصبي والعالم"، 2013)؛

وأخيراً، الأهمية المتزايدة التي بدأ يحظى بها كفضاءٍ لتداول الأفكار، واقتسام التجارب حول السبل الكفيلة بتطوير صناعة سينما التحريك في المغرب، والمنطقتين العربية والأفريقية، عبر استلهام تجربة المدرسة التشيكية الرائدة في تحريك الدمى والعرائس، و"منتدى الصورة" المنعقدة دورته الثانية بعنوان "المستقبل في الصُور"، بحضور معاهد عليا للتكوين، واستوديوهات التحريك، التي اشتغلت على أولى عروض التلفزتين العموميتين لإطلاق مسلسلات تحريك مغربية. بالإضافة إلى حضور وازن لـ"الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة".

 

مسابقة الأفلام الطويلة

6 أفلام شاركت في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، أهمّها "نيكولا الصغير: ماذا ننتظر لنكون سعداء؟"، للفرنسيّين بنجامان ماسوبر وأمندين فرودون (بحضور الأخيرة)، الذي شكّل تكريماً لروح الخلق التي ألهمت مبدعين كبيرين، هما جان جاك سيمبي في الرسم، وروني غوسيني في كتابة القصة، لخلق إحدى أكثر شخصيات القصص المُصوّرة تأثيراً في فرنسا والعالم، من خلال تبنّي خطّ سيمبي، المميّز بجماله واهتمامه بالتفاصيل، من دون أنْ يكون واقعياً، بفضل مساحة البياض التي تحفّ بالرسوم؛ وأسلوب غوسيني في كتابة وضعيات كوميدية، مؤثّرة بصدقها وطابعها المشاغب والمُتهوّر.

ضربة المعلم في سرد الفيلم كامنةٌ في القرار المزدوج بأنْ يخترق "نيكولا الصغير" عالم مبدعَيه، مُتربّعاً على لوحة رسم سيمبي (صوت لوران لافيت)، أو مستلقياً على لوحة مفاتيح غوسيني (صوت آلان شابا)، ليلقي بدوره نظرةً حانيةً تُخفّف من الطابع التراجيدي للجانب الذي يتحوّل فيه الفيلم إلى شبه وثائقي تحريكيّ، يقتفي الطفولة الصعبة للمبدعَين، وكيف كان خَلْقُ نيكولا وسيلةً لتضميد جراحهما. تراجيديا تجد أوجّها في لحظة اللقاء الأخير، الذي جمع المبدعَين 10 أيام قبل الوفاة الباكرة لغوسيني بسكتة قلبية، قبل بلوغه 45 عاماً؛ والذي يجد صداه في رحيل سيمبي قبل أسابيع قليلة على إطلاق الفيلم.

فيلمٌ آخر ترك صدى طيباً بين جمهور المهرجان: "ممنوع دخول الكلاب والإيطاليين"، الفيلم الطويل الثاني لآلان أوغيتو، الذي يحكي قصّة رحيل أجداده الإيطاليين من بيمونتي إلى فرنسا، بداية القرن الـ20، ومعاناتهم من العنصرية والفاشية، وظروف الحياة الصعبة (الجوع والعمل الشاق في المناجم). 9 سنوات كاملة تطلّبها إنجاز الفيلم بتقنية "ستوب موشن" (التحريك صورة بصورة)، وكان قرار ترك بصمات الإنجاز ظاهرة فيها حاسماً (من خلال تفاصيل ظهور نابض التحريك في أعناق الأبقار، وأوراق الكرتون، وقطع السكر التي تصنع المنازل)، خاصةً أنّ ظهور يد المخرج بين الفينة والأخرى في الصورة، لتلامس الدمى وتفاصيل الديكور، قرارٌ جريءٌ يهدم الجدار الرابع، ويُذكّر باستمرار بالرابط بين الأجيال، الذي جعل سعي حفيد عائلة أوغيتّو إلى تخليد أجداده في الفيلم، امتداداً لسعيهم إلى حياة أفضل، اعتماداً على عمل أيديهم.

أما "برلِمبس"، ثالث الأفلام الطويلة للبرازيلي آلي أبريو (رحلة فانتازية لعميلين سرّيين لمملكتين عدوّتين، يجبران على تخطي خلافاتهما لمواجهة العمالقة في عالم تدنو منه الحرب)، فكان مخيباً للانتظار. رغم خطابه الضمني، الذي يُدين تدمير الغابات، وينادي بجسر الفوارق الطبقية لمواجهة الفاشيات اليمينية (الثيمة المرجعية لأبريو، نوعاً ما)، فإنّ رتابة قسمه الأول، وإسهابه في توضيح قوى البطلين وتحدّيات سعيهما، لم يخدما الإيقاع، لا سيما أنّ الحوار اتّسم بالاستفاضة والطغيان على الحكي. كأنّ المخرج وضع فيه كلّ ما لم ينطق به في "الصّبي والعالم".

إلى ذلك، حضر بيار فولديس (نجل بيتر فولديس، رائد سينما التحريك البريطاني من أصل هنغاري) بفيلمه الطويل الأول "صفصاف أعمى وامرأة نائمة"، المقتبس من 6 قصص قصيرة لهاروكي موراكامي (من مجموعة بالعنوان نفسه، تتكوّن من 23 قصة)، حول شخصيات تائهة في سرادب الماضي، والشيزوفرينيا، وشبح زلزال يتهدّد طوكيو.

 

 

رغم شيء من التطويل، وبعض المشاهد التوصيفية، نجح الفيلم في التقاط سحر أسلوب الكاتب الياباني، الذي يتقدّم برهافة بالغة على خطّ مشدود، يمزج عالم الأحلام والاستيهامات بالواقع، لإنتاج لحظات غموض جذّاب بوجوديته، يبرع فولديس في التقاطها بتقنيةِ ثنائية الأبعاد، تنطلق من الاشتغال على فيلم مُصوّر فقط، لتخرج الصُور من طابع الواقعية (عن طريق استلهام حركات الممثلين، من دون إعادة إنتاج محيط الشخصيات والديكور الواقعي كلّياً، كما في فيلم التحريك بتقنية الروتوسكوبيا)، مُقتصرةً على تفاصيل قليلة من الديكور أحياناً، ومانحةً الشخصيات غير المؤثّرة مظهراً باهتاً. بالإضافة إلى تقطيع جريء، لا يتردّد في تبنّي زوايا نظر غير تقليدية وذاتية للشخصيات.

تبقى أبرز تجليات "صفصاف أعمى وامرأة نائمة" ظهورَ ضفدع عملاقة، تمثّل الوجه الآخر لشخصية المحاسب كاتاغيري، واختفاء القطّ عن كومورا، ممثّل المبيعات الفاقد معنى الحياة.

جائزتا الجمهور وأفضل فيلم منحتهما لجنة الشباب لـ"دنيا وأميرة حلب"، لماريا ظريف وأندريه كادي (المعروض في نسخة مدبلجة باللغة العربية): طفلة تغادر ويلات الحرب في سورية بحثاً عن ملجأ. مُسلّحةً بحبّات البركة، التي منحتها إياها جدّتها "مونة" (الرّامزة إلى الثقافة الشعبية السورية، بأساطيرها ومطبخها وارتباطها بالأرض)، وفسحة الحلم التي يمثّلها جدّها درويش (ذو الأهواء الصوفية والمحبّ للموسيقى)، تواجه الطفلة تحدّيات صعبة، تتغلّب عليها بفضل غنى مكوّنات شخصيتها، مستعينة بشخصية سحرية وجذّابة، تستدعي العالم القديم، وما يحيل إليه من حكمة وعراقة.

فيلمٌ قدّمه بيار إيف درابو، مُصمّم ومسجّل ومازج الأصوات ومؤلّف موسيقى رائعة، تختلط فيها إيقاعات العود بالقانون الشرقي والطبول. أبعاد إنسانيةٌ وحسّية مؤثّرة، قدّمتها هذه الجوهرة الفيلمية، انطلاقاً من مسلسل تحريك عرف نجاحاً كبيراً عند عرضه في كندا، حيث يعيش المخرجان، لتأرجحه بين قسوة الواقع وشاعرية الحلم، والقبض على عمق إحساس الصغار بالأشياء، وأهمية الحفاظ على الرابط مع الطفولة، لفتح أعين العالم على الفظاعات التي تصنعها سياسات البالغين.

 

مسابقة الأفلام القصيرة

توزّعت الأفلام القصيرة الـ43، المُشاركة في المسابقة الرسمية، على 4 عروض ليلية، اتّسمت بتنوّع تقنيات الاشتغال، واحتكاك أفلام الطلبة والمخرجين الشباب بأعمالِ أسماءٍ مُكرّسة، كالسويسري كلود لوي، والياباني آتوشي وادا. أفلام فيها مسحة قتامة بيّنة، ترجع ربما إلى أنّ جُلّها صنع في فترة الإغلاق بسبب كورونا، حيث حضرت ثيمات الاغتصاب والحرب والاغتراب، وانعكاسات الجشع النيوليبرالي على البيئة. الجائزة الكبرى للجنة التحكيم نالها "باشيديرم"، لستيفاني كليمون، الذي يُدين بالكثير للاشتغال على الشريط الصوتي، ليقول بنصّ قاضٍّ عزلةَ فتاة تعرّضت للاستغلال الجنسي من جدّها، في مرحلة الطفولة. جائزة لجنة تحكيم الشباب مُنحت إلى "إيكورشيه"، لخواكيم إيريسيه، وتوّج جمهور الصغار "اشرب البحر" لأوجينيه مارغريت.

اللافت للانتباه هذا العام، حضور 3 أفلام مغربية في المسابقة: "شبح" لكوثر وادّي، وفيلمان لاسمين كبيرين: "ظلّ الفراشات" لصوفيا الخياري و"فيتريول" لهشام العسري. جنحت الخياري (تنويه من لجنة التحكيم) إلى أسلوب تعبيري، يعتمد على تقنية تحريك الصباغة لالتقاط تعقيد مشاعر امرأة، تتملّكها الوحدة والحنين، وتعبرها هواجس اختياراتها الماضية وميلانخوليا الحاضر، فتتّخذ من الذكريات ملاذاً. رسوم المخرجة، وفيديوهات مستوحاة من عملها على الفيلم، شكّلت أساس معرض بعنوان "سفر في الأحلام" (المعهد الفرنسي)، شكّل فرصة لاكتشاف طرق اشتغال مخرجة واعدة. اختيار كلمة "خيال" مُرادفاً لـ"ظلّ" في الدارجة المغربية، كعنوان لأحد أقسام المعرض، موفّقٌ، للتدليل على الانغماس الشاعري في أجواء الحلم التعبيري والتجريد الحسّي، اللذين يميّزان أعمالها القصيرة.

ظلّ هشام العسري وفياً ـ بمناسبة استثماره جزئياً تقنية التحريك بالروتوسكوبيا، كوسيلة تعبير جديدة ـ لروح الاكتشاف، ودفع حدود التجديد المميّزة لأسلوبه. في "فيتريول"، يروي قصّة مستوحاة من أحداث واقعية، عن ضحية اغتصاب (نسمع صوتها الحقيقي كراوية في الفيلم)، تجد نفسها مُجبرة على "اختيار" العيش مع مغتصبها، خشيةً من نظرة المجتمع، ومحاولةً لصون حقوق رضيعها.

شخصية أخرى من فئة "غير المرئيين" ينظر إليها مخرج "البحر من ورائكم" (2014) هذه المرّة بموشور الرسم المتحرك، ليقبض على اغترابها، في وسطٍ لا يأبه بأمثالها، ما يُفسّر النزوع إلى الانتهاك واستراتيجية الصدمة كحلّ أخير، عبر اختيارات راديكالية (توظيف فيصل عزيزي المضاد في دور المغتصب)، تمسك بتعقيد وضعية سريالية، تصبح فيها الضحية نفسها مُكرِّسة للحيف، نتيجة قولبتها واحتقارها من المجتمع. ثيمات، كانت استضافة هشام العسري ضيفاً لفقرة "شاي مع..." مناسِبةً لنقاشها، في لقاء مع جمهور غفير من مُحبّيه، تم خلاله أيضاً تناول أوجه التقاطع العديدة بين سينماه وجمالية الرسم وتأثير القصص المصوّرة في تكوين رؤيته الفريدة.

 

تكريم سينما التحريك التشيكية

ارتكزت سينما التحريك التشيكية على إرث مسرح العرائس القوي، في القرن الـ18، لتصنع إحدى أكثر التجارب نضجاً وتأثيراً في سينما التحريك العالمية، ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، رغم قبضة الاتحاد السوفييتي الجاثمة على حرية التعبير. منذ رائدة التحريك هرمينا تيرلوفا إلى ييري ترنكا، مروراً بكاريل زيمان، اعتمد معلّمون كبار على تقنية "ستوب موشن" وصنع الدمى، ليخلقوا أساليب متنوّعة، استطاعت مراوغة الرقابة بفضل الانزياح الراسخ في سينما التحريك، ونَفَس يمزج خفة الكوميديا بالتراجيديا، ليمرّروا خطاباً سياسياً، ينتقد ركائز السلطة، وينشد الحرية والانعتاق من القيود.

هذا أوضحه المؤلّف غزافيي كزافيي كاوا ـ توبور، المندوب العام لـ"نيف أنيماسيون" (كتابات جديدة عن التحريك)، في المحاضرة الافتتاحية الغنية للـ"فيكام"، مُقترحاً مقاطح أفلامٍ تدلّ على سمات المدرسة التشيكية، وخلفيات التأثير العميق، الذي لا تزال تُحدثه حتّى في أقطار بعيدة، كالصين واليابان.

التكريم شكّل فرصةً لتقديم الوثائقي "ييري ترِنكا، الصديق المسترجع"، لجويل فارج وتيريزا بردشكوفا، عن الإرث الاستثنائي لييري ترنكا (1912ـ 1969)، أو "والت ديزني أوروبا الشرقية"، أحد أهم الفنانين التشيك في القرن الـ20، كمبدع رسوم مُرافقة لأعمال أدبية بارزة، في مرحلة أولى، ثمّ مشرف على الديكور المسرحي ورسام تشكيلي، قبل أنْ ينبري إلى شغفه الأول بالدمى، مُنشئاً ـ رفقة ييري بردشكا وإدوارد هوفمان ـ ستوديو "براتري ف تريكو" (معناها: 3 إخوة في كنزة صوفية واحدة)، ويحقّق مَعَالم، مثل الفيلم الطويل "أمير بايايا" (1954)، كلاسيكي الفانتازيا المقتبسة من الحكايا الشعبية ("النمر الذهبي" في "مهرجان لوكارنو")، أو آخر أفلامه، "اليد" (1965)، الذي مُنع أكثر من ربع قرن، لتقديمه طرحاً غاية في الدلالة، عن العلاقة بين الفنّ والسلطة، وينتقد مظاهر عبادة الشخص، مُبشّراً بربيع براغ.

من أجمل لحظات المهرجان أيضاً تقديم أفلامٍ عدّة لييري بردشكا (1917 ـ 1982) من ابنته تيريزا بردشكوفا. مُخرج عظيم، يُلقّب أحياناً بـ"لوبيتش التشيكي"، إشارةً إلى أناقة لمسته في الكوميديا والإخراج. رغم كونه تشكيلياً ورسّاماً، فضّل الاستعانة بفنانين آخرين أكثر ملاءمةً للعمل على التصوّر الرسومي لأفلامه، مُكرّساً نفسه للكتابة والإخراج، فأنجز أفلاماً قصيرة مهمّة، منها "ميتامورفيوس" (1969)، الذي تعتبره كريمتُه "تحفتَه"، عن أبدية الفن وتجدّده المستمر، عبر إحياء فسيفساء قديمة من بومبي، واستلهام أسطورة أورفيوس؛ و"دجاجةٌ لم تُرسم بإتقان" (1963)، الذي حاز تصفيقاً حماسياً من الحضور، لسخريته الذكية ونقده المُبطّن لميكانيزمات تفضيل الشخصيات المتملقة وغير الموهوبة، ووأد بوادر الخلق والتمرّد لدى ذوي التوجّه الفني الحالم في رؤية العالم.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

لقاءات وتكوينات لترسيخ الشغف بالتحريك

الـ"فيكام" أيضاً، أو ربما قبل كلّ شيء، خليّة أنشطة، تجعل من تعزيز الشغف والمعارف واقتسام التجارب في سينما التحريك هدفها، بدءاً من عرض الافتتاح، تقديم المخرج والإعلامي سيرج برومبيرغ (مدير "مهرجان آنسي لسينما التحريك" بين عامي 1999 و2012) الذي حمل المشاهدين في رحلة ساحرة إلى منابع العروض "الستيريوسكوب" (المدعوة ثلاثية الأبعاد)، من النصف الأول للقرن الـ20 (بعضها من دون حوار، رافقها برومبيرغ بعزفه على البيانو)، ومن بلدان وأنواع مختلفة، كـ"عمل مقابل فتات" (1953) لجاك هانّا، المعروف بأنّه من أوائل الأفلام القصيرة المنتجة من "ديزني" للمُشاهدة بأبعاد ثلاثية، إلى "نيكناك" (1989)، لجون لاسيتر، عمل قصير مشهور، عن رجل الثلج المحاصر في كرته الزجاجية، الذي بشّر بقدوم ثورة "توي ستوري".

بالإضافة إلى عرض خاص تمحور حول الفيلم الأخير لميشال أوسلو، "الفرعون، المتوحّش والأميرة"، عرضت فقرة "جاب أنيم" 6 أفلام يابانية طويلة (مسرح محمد المنّوني)، أهمها "إينو ـ أوه"، لجهبذ الأنيم الياباني المعاصر مازاكي يواسا ("لعبة العقل"، 2004)، الذي اتّسم بأسلوب انفجاري في الإيقاع والألوان وتكسير المنظور، إذْ مزج المخرجُ التأثيرات، وأبان كعادته عن راديكالية جمالية في الرسوم والتحريك، ونَفَس كوميديا موسيقية ملحمية، تستعير مفاتيح الـ"روك" في أجواء اليابان القروسطية، لسرد قصّة صداقة بين راقص مشوّه الأطراف والوجه، وعازف أعمى.

اشتمل محور التكوين على أنشطة عدّة يصعب حصرها، أهمّها "ماستركلاس" كريستوف سيرّان، الذي تلقّى درع تكريم المهرجان في الافتتاح، قبل أنْ يتقاسم مع المهرجانيّين أوجهاً من تجربته الغنية والطويلة، كمشرف على التحريك في أفلام مهمّة، ومساهمته في إنشاء أستوديو "دريم ووركس" في لوس أنجليس، واشتغاله على أكثر من 20 فيلم تحريك طويلا كمشرف أو مدير تحريك، منها "أمير مصر"، و"كونغ ـ فو باندا"، "وشْرِك 2"، وساغا "التنانين"، قبل عودته إلى باريس عام 2020، كمشرف على التحريك في "نتفليكس أوروبا".

أكّد سيرّان على ضرورة تلافي الكليشيه في تحريك الشخصيات، وأهمية التحلّي بالملاحظة، أو ما يسمى "دراسة الحركة"، لابتكار حركات سلسة ومُعبّرة، تَقي من سهولة الإيماءات المتكرّرة في الأفلام. كما فَرَد حيزاً مهماً للـ"أكتين"، وتسجيل حصص تسجيل الأصوات مع الممثلين بالفيديو، للإفادة منها في تحريك الشخصيات، مُستعرضاً فيديو لتسجيل الأصوات لساغا "التنانين"، وكيف استلهم من حركات جيرارد باتلر لتحريك شخصية الزعيم "ستويك"، مؤكّداً أنْ لا وصفات جاهزة للنجاح غير الاعتماد على الحدس، ودراسة الأعمال الفنية من كلّ الأصناف: منحوتات وصُوَر ولوحات تشكيلية وأفلام حركة حيّة.

في فقرة "أعمال في طور الإنجاز"، قدّم دوني دو (كريستال "آنسي" لأفضل فيلم تحريك، "فونان"، 2018) لمحات من تطوّر اشتغاله، بمزج تقنيتي الأبعاد الثنائية للشخصيات، والثلاثية لبعض قطع الديكور، على فيلمه الطويل المقبل "غابة الآنسة تانغ"، الذي يحكي قصّة وجودية وعابرة للأجيال، لرحلة عائلة صينية على امتداد 200 عام. ونقلت حصتي "ماكينغ أوف" جمهور الحضور، من الطلبة والمهنيّين، إلى كواليس ملهمة من مسار صناعة ستوري ـ بورد وشخصيات وديكور "ممنوع الدخول على الكلاب والإيطاليين"، مع آلان أوغيتّو، ثمّ أهمية الألوان في صوغ مخيال آلي أبريو، عبر تقنية الرسم بالمداد، ومكانة الإضاءة في فيلمه الثاني "برلِمبس".

اللقاء مع الكندي بيار إيف درابو فرصة للوقوف على خصوصية اشتغاله على أوجه عدّة من تصوّر أصوات "دنيا وأميرة حلب"، أهمّها تأليف وتسجيل الموسيقى، المرتكزة على العود والقانون والطبول، موضحاً أهمية اختيار عازفين بارعين، الذي يُمكّن من تعويض عدم تخصّص المؤلف الموسيقيّ فيها، لكنْ تحكّمه في سلالمها يبقى برأيه ضرورياً.

انقسمت ورشات التكوين بين ورشة بيداغوجية، تندرج في إطار التربية على الصورة، ومرافقة الأطفال لإنجاز وتحريك الدمى، وأخرى موجّهة إلى الشباب، منها 3 في مرحلة التصوّر: كتابة السيناريو، والـ"ستوري بورد"، وتصميم الشخصيات، واثنتان تتعلّقان بمرحلة الإنجاز: "التحريك ثنائي الأبعاد" و"التحريك بالمؤثرات الخاصة". كما انعقدت الدورة الـ8 للإقامة الفرنكوفونية للكتابة، لمدّة شهر كامل، في مكناس، بإشراف جان رونيو، كاتب السيناريو المتخصّص في مسلسلات وأفلام التحريك ("الثعلب الكبير والشرير"، "إرنست وسيلستين 2" وغيرهما)، بمشاركة 5 مخرجات (من فرنسا و بلجيكا وتونس وبينين) حاملات مشاريع أفلام ومسلسلات تحريك.

لعلّ أجمل اعتراف بأهمية دور التكوين، الذي لعبه المهرجان أكثر من عقدين، يكمن في كلمة قرأتها والدة الشاب محمد صمصم، الفائز بجائزة عايشة الكبرى للتحريك، بسبب تعذّر حضوره، قال فيها إنّه يُدين للـ"فيكام" باكتشاف سينما التحريك، وتوطيد شغفه بها، وصقل قدراته في إنجازها، بحضور عروض وأنشطة المهرجان منذ نعومة أظافره. تكافئ هذه الجائزة أفضل مشروع لفيلم تحريك قصير، لمخرج مغربي شاب، بمنحة إبداع قيمتها 50 ألف درهم، وإقامة فنية في "دير فانتيفرو" في فرنسا.

وتبقى حصص "طوب كلاس سيني" (عروض ولقاءات مع المخرجين) الصباحية، الموجّهة إلى تلاميذ المدارس، أكثر مشاهد الـ"فيكام" تأثيراً، بسبب أجواء الحماسة المتجرّدة والبريئة التي تسودها، وما تحيل عليه من أمل بمستقبل أكثر إشراقاً لروح الـ"سينفيليا" عامة، والشغف بسينما التحريك في المغرب خاصة.

المساهمون