فلسطين في السينما: جرح الآخر كما لو أنّه جرحنا

21 أكتوبر 2023
تظاهرة في المغرب دعماً للشعب الفلسطيني (أبو آدم محمد/ الأناضول)
+ الخط -

شخصياً، كلّما استعدت السينما الفلسطينية ومُتخيّلها، بدت لي مقرونة بالجُرح والألم والمأساة. مع ذلك، إنّها سينما مُميّزة، استطاعت عبر تاريخها جذب عدد كبير من المُشاهدين في العالم، بما تضمّنته من صُوَرٍ سينمائية باقية في الذاكرة والوجدان. هنا، تتحوّل السينما إلى فعلِ صمودٍ ومقاومة، من أجل البقاء والعيش. هذا يجعلها حالة وجودية خاصّة، مُقارنة بباقي أفلام العالم العربي، المَشغولة بهواجس أخرى من التعبير والقول.

استطاع الفيلم الفلسطيني، في السنوات الأخيرة، احتلال مكانة مركزية في نسيج السينما العربية. لم تعُد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم طافحة على تضاريس الصورة السينمائية، بقدر ما غدَتْ فعلاً جمالياً مُختمِراً في عمق الصورة ومكبوتها. المقاومة، بحدّ ذاتها، داخل السينما، ليست مُهمّة، إلاّ بمقدار ما تتركه من أثرٍ عميق في بنية العمل السينمائي وميكانيزماته.

لكنْ، كيف الاهتداء إلى حداثة السينما، والاحتلال يُمارِس سُلطته وجرائمه على الوجود الفلسطيني، مُحوّلاً فُسحة عيشهم إلى خرابٍ نفسيّ قاتل؟ غالبية الأفلام الفلسطينية تُحاول الالتصاق بمسام الواقع، والعمل من خلاله على اقتناص قصصٍ وحكايات، بقدر ما تحاول البقاء أمينة له، ترسم له آفاقاً جديدة صوب التخييل.

الخيال عامل أنطولوجي وحيد يُميّز، بقوّة، العمل السينمائي، مقارنة بالأشكال التعبيرية الأخرى. قبل سنوات، حَدَس الفيلم الفلسطيني هذا العنصر المهمّ، الذي يُضفي قيمة أكبر على الفيلم، ويجعله عملاً إبداعياً محضاً. وإذا كان الاحتلال الصهيوني، الذي يتفنّن يوماً بعد يوم في قتل الأبرياء أمام أنظار العالم، يسعى جاهداً إلى تدمير الأرشيف البصري لفلسطين وتشتيته، فلأنّه يعرف جيّداً قوّة هذا الموروث البصري في صناعة أفق يُؤسّسه تاريخٌ حقيقيّ ضاربٌ في جذور الأرض والعقل والنفس.

لسنواتٍ طويلة سابقة، ظلّت علاقتي بالسينما الفلسطينية مُحتشمة، يطبعها نوعٌ من الفتور الذي تتحكّم فيه عوامل تنظيمية مُرتبطة بعدم عرض الفيلم الفلسطيني في صالاتٍ سينمائية مغربيّة، تغلب عليها، منذ ثمانينيات القرن العشرين، أفلام هندية وأميركية، يأخذ التجاري فيها مكانة بارزة. كنّا نعيش فلسطين وجُرحها في مقرّات الأحزاب والجامعة والمكتبات والمقاهي ودور الشباب. لكنّ السينما كانت مُغيّبة، مع أنّ الأدب حاضرٌ يوميّاً في قراءاتٍ ممتعةٍ لغسان كنفاني ومحمود درويش ومريد البرغوثي وفدوى طوقان، إضافة إلى وجوهٍ جديدة تعرّفت عليها لاحقاً، في مرحلة أمضيتها في الصحافة العربية ومَباهجها.

بقدر ما كان الأدب الفلسطينيّ قريباً ومُلتصقاً بي وبيومياتي، ظلّت السينما، بكافّة جمالها، بعيدة عنّي، بحكم سهولة الحصول على كتاب، مقارنةً بفيلم سينمائي. لم تكن السينما الفلسطينية، والسينما العربية عامّة، رائجة في جيلي، أمام سُلطة جميلة تتفنّن ممثلات بوليوود ونجوم هوليوود في ممارستها على الوجدان والمُخيّلة. سحرٌ يصعب فهمه، وأناس هائمون على وجوههم، يُقلّبون ملصقات أشرطة الأفلام، ويختارون أجمل الوجوه والتجارب في السينما العالمية منها.

كنّا نعشق السينما المصرية، للتلصّص على أفلامٍ كوميدية (عادل إمام حصراً)، وهذه رافقتنا طويلاً في المنافي القصيّة من المغرب المنسيّ. لم يكن جيلنا يهتمّ بالسينما الفلسطينية، لأنّها غير موجودة في سوق الأفلام، على نقيض نظيرتها اللبنانية، التي كانت حاضرة بقوّة. هذا الغياب ساهم، بشكل كبير، في تغريب هذه السينما في المجتمع، ما جعل مؤسّسات ومهرجانات تنأى بنفسها عن عرض الأفلام. فالمجتمع كان فرحاً من بهجة السينما البوليوودية، التي تنثر أيقوناتها على الشاشات المغربيّة. فرحٌ مُزلزلٌ كان يصعب فهمه واستيعابه، والناس مُبتهجة وفي جنونٍ كلّي أمام شاشات الصالات السينمائية. 

في الأندية السينمائية في دور الشباب، كانت مُشاهدة الفيلم الفلسطينيّ تأخذ صبغة جدّية، تتماهى مع مفهوم الالتزام السياسيّ اليساري، الطاغي في هذه الأندية. هنا، تحضر فلسطين باعتبارها جُرحاً عربيّاً وقضية مركزيّة بالنسبة إلى الأندية كلّها، التي كلّما ارتفع في تنظيماتها الجانب السياسيّ، حَظِي الفيلم الفلسطينيّ بنصيب الأسد، عرضاً ومُشاهدة وتأمّلاً ونقاشاً. لكنْ، ما كان يُعمقّ فعل المُشاهدة أنّها كانت تتزامن دائماً مع حركات ومظاهرات واحتجاجات تُندّد بالجرائم الصهيونية ضدّ فلسطين. كتاباتٌ ورسومات وموسيقى وأغان ومسرحيات تحتجّ، فتعمل على رسم فلسطين على الطرق والأحجار والجدران والأجساد والعقليات.

صُوَر سينمائية متشظّية كانت تصلني من دون وعيّ، من هنا وهناك، وأنا في مطالع الصبا والأحلام. أعترف: لم أكن أحبّ السينما المغربية في طفولتي، بالقوّة والهشاشة التي أبدو عليها أمام فيلم إيطالي أو إسباني أو فرنسيّ. أفلام عربية عدّة أحببتها، ونسجت معها دائماً علاقة خاصّة، لا سيما الأفلام التي تُخرج الكاميرا من البيوت والصالونات، وتزُجّ بها في عوالم لم أعهدها من قبل.

بفضل المَشهد السينمائي اللبناني، عبر أفلام لجان شمعون ومارون بغدادي وجوسلين صعب، تعرّفت بفضل صُوَر عابرة على الجُرح الفلسطيني سينمائياً. بدا لي، وأنا صغير، اختلافٌ عن فلسطين التي أعرف في روايات وقصص ومؤلّفات فكرية.

السينما تجعلك تعيش جُرح الآخر كأنّه جُرحك. صُوَرٌ تُثير فتنة المجهول، وتدفع إلى البحث عن هويّة في عالم مُتقلّب. ومع اشتداد عضدي في الصحافة العربية، في فترة من حياتي، بدأتُ أتلمّس الطريق إلى نماذج كثيرة من التجارب السينمائية الفلسطينية الجديدة.

لا أعرف لماذا تخطر في ذهني الآن أفلام إيليا سليمان ونجوى نجّار وهيام عباس وآن ماري جاسر وجمانة منّاع ومي المصري. تجارب عدّة من مختلف الأجيال والحساسيات، رسمت لي طريق التعرّف على السينما الفلسطينية الجديدة، التي أخذت على عاتقها تثمين المشروع السينمائي الأوّل في فلسطين، لكنْ من خلال الرقيّ به من الناحية الجمالية، وتحويله إلى مختبر بصريّ قادر على ابتداع أفكار ومفاهيم وقضايا وإشكالات، أكثر تعلّقاً بمدارات الواقع الفلسطيني ومتاهاته المُضنية بفعل احتلال يدين تاريخ البلد وناسه.

المساهمون