أفلامٌ سينمائية فلسطينية عدّة تركت أثراً واضحاً في الذاكرة. ليس هنا مجال تفضيلي، بأي حال، فالأفلام الفلسطينية المصنوعة في الداخل الفلسطيني خاضعةٌ لأنظمةٍ رقابية، تُضاف إلى الخصوصية الفلسطينية، الناتجة من الاحتلال.
هذه الأفلام مرتبطة ارتباطاً عضوياً بواقع الاحتلال، إذْ تبدو الحياة الاجتماعية/الثقافية مُلغاة في الرؤية العسكرية/السياسية العربية للمسألة الفلسطينية، لصالح الخطاب الإعلامي الرسمي. لذا، لم نرَ عرضاً تجارياً لفيلمٍ فلسطيني، مهما كانت أهميّته، فالعروض اقتصرت على مناسبات ومهرجانات، وبقي الفيلم الفلسطيني موضوعاً لتداولاتٍ ثقافية جانبية.
"حتى إشعار آخر" (1994)، للفلسطيني رشيد مشهراوي، يتناول حالة اجتماعية صرفة. فيه، نكتشف أنّ هؤلاء الفلسطينيين، "البعيدين" عنّا، أناسٌ عاديّون مثلنا، ويرفضون الاحتلال مثلنا. إنّه التأثير الأكبر الذي يُبقي الفيلم في الذاكرة، فالتحضّر البشري يقتضي رفض الاحتلال، والاستبداد الناتج عنه. وحول هذه النقطة، تدور مفاعيل الفيلم عند المتلقّي، ليتحوّل السؤال الجمعي إلى سؤال شخصي، يتناول وجود المرء في جماعة إنسانية.
يتناول "حتى إشعار آخر" حالة الاستبداد الاجتياحية، التي يفرضها الاحتلال ليس بقوة السلاح فقط، بل بفرض حالة استفراد، تجعل المجموعة البشرية كتلة مشرذمة، لا تستطيع التعاون على إنتاج حياة متحضرة، في الحدّ الأدنى. فالفيلم يتناول يوماً في حياة أسرة فلسطينية، مُهجّرة في وطنها إلى مخيمٍ مُلاصق لمدينة غزة، ويرصد إجراءات الاحتلال المضادة للتحضّر، الواقعة على هذه الأسرة، بحيث تُفقدها الأشكال البديهية البسيطة لفعاليتها الإنسانية، ليبدو أفراد الأسرة مُحاصرون بشكل شخصي، ومنعدمو الفعالية، بغضّ النظر عن فرض منع التجوّل، "حتى إشعار آخر". فالاحتلال، بصفته الاستبدادية، يُهيمن على الأداء البشري الطبيعي.
أسرة مؤلّفة من سبعة أفراد وطفلة، تعيش في حيّز مكاني ضيّق، مسقوفٍ بألواح "زينكو"، بالكاد تستطيع الوفاء باحتياجاتها اليومية. تُفَاجأ بإعلان منع التجول، مع وصول رسالة من أحد أبنائها الذي يدرس في أوروبا. تتقدّم الأحداث بالتوازي مع قراءة الرسالة المقبلة من بلاد بشر طبيعيين إلى هذا البلد المنكوب بالاستبداد، حيث تبدو المصائر مسدودة، بشكل جزافي، فلا استفادة ولا إفادة من عيشٍ لا يأخذ ولا يعطي، إلاّ في حدود الأحوال الطارئة، لتبدو كأنّها تورّطت بالحياة، وعليها أنْ تخفي محاولاتها للعيش بعيداً عن عيني المحتلّ، ليُصبح الحدث الوحيد المهم طلب الاحتلال من ذكور الحيّ الخروج من المنازل، والاصطفاف إلى الجدران للتدقيق، ثم الاعتقال، أو العودة الى المنزل.
هذا الحدث المرير سيكون المشهد الفارق درامياً، في مقابل الركود الظاهري لحوادث هذه الحكاية الاعتيادية، بالنسبة إلى أسرة شرق أوسطية، كالعلاقة التعاونية مع الجيران، وتنظيم الموارد في الأيام المقبلة، أو حتى تدليل الطفلة الصغيرة في الأحضان المحاصَرة أصلاً، فيكون الفيلم مريراً، أو بالأحرى مليئاً بحيوات المرارة، في إشارة واضحة إلى "طنجرة الضغط" التي انفجرت، آنئذٍ، في الانتفاضة الشعبية، التي أظهر الفيلم أنّها لم تعد كافية، وأنّ هناك حاجة إلى طنجرة أكبر بكثير لمعالجة الاحتلال.
الحكاية بسيطة للغاية، وكذلك صنع الفيلم، الذي يمكن حسبانهما على السينما الفقيرة (لا أقصد التمويل، طبعاً). فالكوادر الثابتة أسبغت عليه جواً حصارياً، مُضافاً إلى موقع واحد، يوحي بالضيق أصلاً. هنا، استطاعت مهارة مشهراوي تجاوز فَخّ المسرحة، ليتكلم بصوغ سينمائي صرف، يُمكِّن المُشاهد من متابعة الحدث المتواصل لحالة الركود الظاهرية، التي سبق ذكرها.
فالحكاية سردٌ لوقائع يوم عادي من حياة أسرة عادية، لو لم تكن تحت هذا النوع من الاحتلال. رغم هذه البساطة في العيش والمتطلّبات، لا شيء يمكن أنْ يتمّ ببساطة اعتيادية. فالابن الأكبر، مثلاً، لا يذهب إلى العمل كسائق شاحنة، بسبب حواجز الاحتلال التي لا تسمح بعبور الطرق. لكنّ الخضار التي ينقلها إلى القدس لا تنتظر، وستفسد، ما يُعمِّم المصيبة على الفلاحين والتجار والمستهلكين، وحتى على الأسعار، لتبدو مشكلة هذا الإجراء الاستبدادي البسيط والسلمي والاستفرادي نوعاً من أنواع القتل الجماعي البطيء. هذا يحصل، مبدئياً، مع ابنة الجيران، التي تُحضرها الولاّدة في منع التجول، فتموت بعدها بسبب منع التجول نفسه.
هكذا، ببساطة، تُسرق حياة الناس، بتحويلها إلى حيوات تنقصها الحقوق بشكل فادح، مُقارنة بالحياة التي تسردها رسالة ابن هذه الأسرة من أوروبا، التي يقرأها شقيقه أمام الجميع، بمن فيهم المُشاهدين، بشكل متقطّع، بحسب سيرورة الأحداث التي قوطعت مراراً في الفيلم، بأحداثٍ أكثر إلحاحاً.
اعتقال أحد أفراد الأسرة يُقاطع حدث وفاة الشابة التي أنجبت طفلها للتو، ما يمنع استمرار التعاطف الإنساني البديهي. كأنّ المصيبة تلغي مصيبة أخرى، وكأنّها لم تكن، إلى درجة أنّه لن يبقى للإنسان ما يخسره، في عودة إلى مثال طنجرة الضغط، التي من المؤكّد أنّها ستنفجر لاحقاً، بطريقة مؤذية حقّاً.
شاهدتُ أفلاماً كثيرة عن فلسطين، لكنها لم تكن فلسطينية بالمعنى الذي قدّمه رشيد مشهراوي في "حتى إشعار آخر". هذا لا يعني أنْ تكون هناك أفلامٌ فلسطينية بالمعنى الآنف ذكره، وشاهدتها لاحقاً. لكنّه أول فيلم فلسطيني شاهدته ينقل إلينا حياة حقيقية لأناسٍ، نحن معنيّين بهم. أناس حقيقيون، من لحمٍ ودم ومزاج وطموح وآلام مكبوتة وأحلام محبطة. فيلمٌ مصنوع جيداً، في جنبات مخيم لا يُقدّم الكثير، ولا حتى القليل، سوى جوانيات سكّانه الصادقة، التي يعرضها المخرج في غفلة عنهم.
في أيامنا هذه، أستدعي "حتى إشعار آخر" من ذاكرات مُتعدّدة ومتداخلة ومتراكمة منذ ثلاثين عاماً، وأنا أراقب انفجار طنجرة الضغط التي أشار إليها الفيلم. إنّه فيلم لأصحاب "الذاكرة الخصبة".