فرنسا: عن صحافة استبدادية في زمن الإبادة

26 فبراير 2024
في باريس (إيمانويل دونان/ فرانس برس)
+ الخط -

هل يمكن للصحافة أن تشكّل مدخلاً لفهم المنعطف الاستبدادي الذي يعرفه بلدٌ مثل فرنسا؟ في مقال مطوّلٍ لهما نُشر في عدد هذا الشهر من دورية "لوموند ديبلوماتيك"، يقدّم الصحافي سيرج حليمي، وعالم الاجتماع بيير رامبير، إجابة عن هذا السؤال، من خلال تحليلهما للطريقة التي يغطّي من خلالها الإعلام الفرنسي الحرب التي تشنّها إسرائيل على شعب غزّة منذ ما يقارب الخمسة أشهر.

فرنسا والانحياز يميناً

ينطلق الكاتبان من ملاحظة أن الأشهر القليلة الماضية شهدتْ "انتقالاً للطيف السياسي الفرنسي نحو اليمين المتطرّف بشكل لم يكن من الممكن تخيّله قبل عشر سنوات، بالتوازي مع تقييد حرّية التعبير والرأي والتظاهر" ضدّ الحرب الإسرائيلية، التي يميل القسم الأكبر من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة في فرنسا إلى تأييد وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية حولها. ويأخذ الكاتبان مثالين على هذا المنعطف: إعادة تأهيل اليمين المتطرّف أمام الرأي العام، عبر تقديمه بوصفه داعماً لحق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، على الرغم من تاريخه المعادي لأبسط حقوق اليهود في فرنسا، وإقصاء حزب "فرنسا الأبية" من المعادلة السياسية الأخلاقية في البلد، فقط لأنه رفض وصف حماس بالحركة الإرهابية، ورفض تأييد حرب إسرائيل على قطاع غزّة.
ويضيفان: "المفارقة أن هذا المنعطف الاستبدادي الذي تعيشه فرنسا هذه الأيام تقوم عليه قيادة مشتركة: بين الحقل الصحافي الذي سمّى نفسه حامياً للحرّيات الديمقراطية، وبين حكومة يُفترَض أنها انتُخبَتْ لتَحُول دون وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة؛ وأنّ كلاً منهما يبرّر أفعاله بضرورة دعم "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، في وقتٍ لا تتوقّف فيه هذه الدولة عن ارتكاب جرائم الحرب، على أمل التعجيل بنفي وترحيل شعب بأكمله ومنعه من أن يمتلك حق السيادة على أرضه".
ولا يتردّد المقال بالإعلان عن ولادة "صحافة استبدادية" في فرنسا، كما تدلّ على ذلك تغطية وسائل إعلامها للحرب الإسرائيلية. تغطية يصفها الكاتبان بأنها قائمة على "حيادية كاريكاتورية" تجمع بين التركيز على هجوم حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ثم "التعامل بحذر والتقليل من شأن الحرب الشاملة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين".

المحور الزماني

يلاحظ الكاتبان أن ثمة ثلاثة توجّهات أساسية تصبغ هذه التغطية بصبغتها. أوّلها المحور الزماني، إذ شاء الإعلام الفرنسي أن يختار تاريخ السابع من أكتوبر بداية لتغطيته، ضارباً عرض الحائط بكلّ ما اقترفته إسرائيل من عمليات قتل واستيطان في تاريخها، بل وحتى في السنتين اللتين سبقتاه، وهي الفترة التي يذكّر الكاتبان أن مئات من الفلسطينيين قُتلوا خلالها على أيدي الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. هذا الخيار الزماني يجعل حرب إسرائيل على غزّة مجرّد "ردّ" على فعل بادرت به حماس. كما أنه يُقصي من حيّز النقاش والتغطية حقّ الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، حيث تقدّمهم وسائل الإعلام الفرنسية باعتبارهم مهاجمين، لا مدافعين عن أرضهم.
النظرة المتحورة تماماً حول الغرب هي ثاني صفات التغطية الفرنسية، بحسب حليمي ورامبير، حيث يمدّ كثيرٌ من المتدخّلين على الشاشات الفرنسية حدود الغرب حتى إسرائيل، لأن "إسرائيل بلدٌ تسود فيه الروح الأوروبية"، كما يقول فيليب فال، المدير السابق لـ"شارلي إيبدو"، وهو ما يسهّل تقديم حربها على الشعب الفلسطيني بوصفها "صراعاً للديمقراطيات الغربية ضدّ ظلاميات الإسلام الراديكالي"، كما تقول صحافية يذكّر كاتبا المقال بكلامها الذي أوردته في جريدة "باري ماتش" اليمينية. هذا الانحياز إلى الاحتلال الإسرائيل، بل والتماهي معه، سيقود العديد من وسائل الإعلام الفرنسية إلى تصرّفات تضرب الأخلاق الصحافية عرض الحائط، مثل استضافة جنود إسرائيل من أصل فرنسي من دون مساءلتهم عن أخلاقية وقانونية هذا الخيار، أو قول "خبير" صحافي، هو بيير سرفان، عبر إذاعة "فرانس أنتير" العمومية، بأنه "إذا أرادت إسرائيل الوصول إلى أهداف حربها بأسرع وقت ممكن، فسيكون عليها قتل مزيد المدنيين، لأن حماس تحتمي بالمدنيين"!

الخيارات المعجمية

يتوقّف المقال، ثالثاً، عند الخيارات المعجمية التي تقوم بها التلفزيونات والإذاعات والصحف الفرنسية، مثل الحديث عن "موت" فلسطينيين، بدلاً من القول بأنهم قُتلوا على يد قوات الاحتلال، ومثل اختصار الشعب الفلسطيني وأطيافه المتعدّدة بـ"الإرهاب الإسلاموي"، والتركيز على أن ما تقوم به إسرائيل هو "ردٌّ" على هجوم حماس، وليس حرب إبادة ضد شعب.
ويختتم الكاتبان بالقول: "في غضون أربعة أشهر، لم يكتف المسؤولون عن السُّلطة الرابعة بتغذية النزعة الثقافية التي تضع الغرب على رأس الإنسانية، كما كان الحال في زمن الإمبراطوريات الاستعمارية، بل إن الغالبية العظمى منهم أيّدوا وجهة نظر اليمين المتطرّف الإسرائيلي، وواكبوا أو أيّدوا في فرنسا تهميش معارضي الحرب، من خلال منعهم من التعبير عن تضامنهم الذي كان مرحّباً به حتى الأمس القرب".

المساهمون