"فتى الديسكو"... رقصة في انتظار يوم آخر من القتال

27 يوليو 2024
"فتى الديسكو" هو الباكورة الروائية الطويلة للمخرج الإيطالي جياكومو أبروسيزي (IMDb)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **قصتان متوازيتان**: فيلم "فتى الديسكو" يروي قصة أليكسي، الشاب البيلاروسي الذي ينضم إلى الفيلق الأجنبي لضمان وجوده الشرعي في فرنسا، وجومو، الناشط الثوري في دلتا النيجر الذي يكافح ضد استغلال شركات النفط.

- **أحلام مشتركة رغم الصراعات**: أليكسي وجومو يتشاركان حلم الهروب من واقعهما القاسي والبحث عن حياة بديلة من خلال الرقص في نوادي باريس الليلية، مما يعكس هشاشتهما الإنسانية.

- **تجربة سينمائية حسية**: الفيلم، الذي عُرض في مهرجان برلين السينمائي الدولي، مكثف في الأحاسيس والألوان، ويعكس ضياع الهوية والصدمات، حيث يبقى أليكسي منبوذاً وغريباً رغم وصوله إلى فرنسا.

في أفريقيا، تنام مجموعة من ثوار دلتا النيجر بهدوء، في انتظار يوم آخر من القتال. في الليلة نفسها، قرب الحدود البولندية، يستعد شابان للانطلاق في رحلة خطرة، حالمين بحياة جديدة في بلاد أقل قسوة. هكذا يبدأ فيلم "فتى الديسكو" (Disco Boy) منقسماً بين موضوعي الاستعمار، والهجرة غير الشرعية. عالمان يلتقيان في حكاية يرغب المخرج الإيطالي جياكومو أبروسيزي بروايتها من منظورين مختلفين. نحن، إذن، أمام خطين سرديين يسيران بالتوازي؛ إذ يروي الأول قصة أليكسي (فرانز روغوفسكي)، القادم من بيلاروسيا، الذي يحتال على السلطات البولندية، ليدخل إلى البلاد مع مجموعة من مشجعي كرة القدم، ثم يكمل رحلة العبور نحو أوروبا بشكل غير قانوني، حتى الوصول إلى البلاد الحلم، كما يعتقد، فرنسا. ولكنّ الرحلة تبدو أكثر تعقيداً من تصوّراته. يدفع أول أثمانها مبكّراً، بفقد صديقه المقرب ميخائيل، ليجد نفسه أمام خيار وحيد، يضمن وجوده الشرعي في البلاد، وهو الانضمام إلى الفيلق الأجنبي، الذي يمثل الولادة الجديدة للمهاجرين الراغبين في العيش، قانونياً، في فرنسا. أما في الخط الثاني، فيقدّم أبروسيزي قصة جومو، الناشط الثوري في دلتا النيجر، المنخرط في الكفاح المسلح ضد استغلال شركات النفط، المستمرة في نهب المنطقة منذ عقود. لدى جومو شقيقة تدعى أودوكا (ليتيسيا كي) تستعد للمغادرة إلى المدينة الكبيرة. يشترك كلا الأخوين في شغفهما بالرقص، ويؤديان الاستعراضات معاً ضمن الطقوس الاحتفالية للقبيلة، ولكن رغبة جومو في تحرير أرضه تغلب حلمه في أن يكون راقصاً في نوادي التكنو. عندما تختطف جبهة التحرير النيجيرية مواطنين فرنسيين، يُرسل الفيلق الأجنبي لتحرير الرهائن.

وهنا يتصادم العالمان معاً، وتتشابك خيوط الحكاية، ويتداخل مصير أليكسي مع جومو وشقيقته.

"أحلم أن أصبح فتى ديسكو"، هذا ما يقوله جومو لصديقه في أحد المشاهد القليلة التي نقترب فيها من روحه، بعيداً عن كونه مقاتلاً وثائراً، مسكوناً بآلام مجتمعه. فالوقوف على منصة، والانجراف مع إيقاع الموسيقى، وسط كل تلك الأجساد المتراقصة، قد لا يعني الكثير بالنسبة لأولئك الذين يرون ذلك من بعيد، لكن هذه النشوة والقدرة على الاستسلام قد تكون حلماً لمن وُلدوا على "الجانب الآخر من النهر"، وفُرض عليهم واقع لا يشبههم.

من خلال اللقاء العابر والمأساوي بين أليكسي وجومو المنحدرين من عرقين مختلفين، يرغب المخرج في إظهار أنه خلف جسدين مقولبين في أدوار ذكورية معينة فرضتها عليهما ظروف النزاع، تكمن مشاعر ورغبات أخرى، وحتى هشاشة معينة. فأليكسي وجومو قد يكونان عدوين، لكن لديهما قواسم مشتركة أكثر من الاختلافات. على الرغم من صراعهما المستمر للبقاء؛ يتشارك الشابان حلم الهروب من واقعهما، وإيجاد حياة بديلة، من خلال تحريك جسديهما في نوادي باريس الليلية، على أنغام الموسيقى الصاخبة.

لا يركّز المخرج كثيراً على رسم الشخصيات وتطورها، بل ينحاز أكثر إلى الشكل، خاصة مع ميله إلى التجريب البصري، فالتغيير العميق في روح أليكسي، الشاب قليل الكلام، الذي سيقوده إلى قرار مصيري مع اقترابنا من نهاية الفيلم، قد لا يبدو مقنعاً تماماً، ولكنّ ندرة الحوار والمشاهد التي تبرر هذا التحول، يعوضها أداء الممثل جيداً. حين يفقد أليكسي صديقه، فإننا لا نرى دموعاً أو صراخاً، بل يكفي أن نرى انعكاس وجهه في الماء، لنشعر بأنه هو من فارق الحياة حقاً. كذلك، تبقى معرفتنا بجومو وشقيقته مقتصرة على تفاصيل قليلة، لا تخدم كثيراً ما يرمي إليه المخرج وفق ما صرّح به، وهو رواية الحرب من وجهة نظر طرفي النزاع.

على الجانب الآخر، يمثّل الفيلم تجربة حسية للغاية، فالتصوير والموسيقى عناصر أساسية في خلق أجواء الفيلم، والتوحيد بين الشخصيتين، بما يتجاوز المعارك التي يخوضانها، وهكذا، من خلال عيون أليكسي (أو ربما جومو)، فإننا نهذي ونتأمل أحزان العالم، تحت أضواء النيون القوية، لتصبح المشاهد الراقصة تجسيداً أقرب إلى الهلاوس، تتلاشى فيها الحدود بين الواقع والخيال.

"فتى الديسكو" هو الباكورة الروائية الطويلة للمخرج الإيطالي جياكومو أبروسيزي، صانع الأفلام القصيرة والوثائقية، والمقيم في فرنسا. عرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الـ73، وحازت المصورة الفرنسية إيلين لوفار على جائزة الدب الفضي لأفضل مساهمة فنية عن عملها في الفيلم.

"فتى الديسكو" فيلم كابوسي، مكثّف في كل شيء؛ الأحاسيس، والألوان، والتأويلات. فيلم عن الحروب، الصدمات، ضياع الهوية، الوقوف على حافة الحلم، التماثل مع شخص يجب أن يُنظر إليه على أنه العدو. في الفيلم، يأتي أليكسي إلى فرنسا محملاً بأحلام المهاجرين البسيطة، وهي الأمان والحياة الطبيعية، لكنه يبقى منبوذاً، غريباً، كما كان في بلاده. يحتسي نبيذ "بوردو" الذي "لم يعد أحد يشربه"، كما يخبره العامل في البار، ويصارع أشباحه الخاصة. في الفيلم، أراد أليكسي أن يصبح مواطناً فرنسياً، علّه يجد نفسه، لكنه في الواقع، لم يستطع الانفكاك عن حقيقة كونه جزءاً من المهمّشين، الباحثين عن انتماء، في عالم يفتقر إلى العدالة.

المساهمون