غياب السينما التركية عربياً وانتصار الشاشة الصغيرة

17 يناير 2023
من فيلم "سبات شتوي" لـ نوري جيلان (IMDb)
+ الخط -

عند معاينة الدراما التركية، ومراقبة حجم النجاح الهائل الذي حققته في العقدين الأخيرين من توسع وتمدد داخل الأسواق العربية، يصبح السؤال حول صناعة السينما التركية مطلبًا بديهيًا، لفهم العوامل التي تضعها في مرتبة أقل، مقارنة بما حققته الدراما من نجاحات متواصلة حتى يومنا هذا.

الأولوية للسوق المحلية

قد لا تحظى الصناعة السينمائية التركية بهذا القدر من الاهتمام داخل العالم العربي كما حظيت به الدراما. إلا أنها تعتبر جزءًا أساسيًا من ثقافة الشعب التركي. وهذه الحظوة مهدت لها مراحل طويلة ومتقلبة بين تأسيس وصناعة واشتغال، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. ومنه، نستطيع القول إن خصوصية الصناعة السينمائية في تركيا، سمحت بتقويضها محليًا تبعًا لتلك المراحل ومخرجاتها.
شهدت السينما التركية منذ نشأتها نهاية العقد الثاني من القرن العشرين حتى يومنا هذا، فترتين ذهبيتين. الأولى بين عامي 1960 و1980، وقد عرفت بعصر "يشيل جام" (تيمنًا بأحد شوارع إسطنبول الشهير كواحد من أهم مراكز الثقل للعاملين في الحقل السينمائي في تركيا). وقد احتلت تركيا خلال هذه الفترة المركز الثالث عالميًا في إنتاج الأفلام، بعد أن وصل عدد الأعمال المنتجة عام 1972 إلى نحو 300 فيلم في السنة. عوامل عديدة ساهمت في ارتقاء الصناعة السينمائية في تلك الفترة، أهمها تخفيض الضرائب، الأمر الذي سمح في ارتفاع عدد شركات الإنتاج بشكل كبير، وبالتالي انتعاش السوق المحلية وانعكاسه إيجابًا على اقتصاد البلاد ومعيشة المواطنين. لتغدو السينما بعدها مطلبًا ترفيهيًا أساسيًا في حياة عامة الشعب التركي، وجزءًا مهمًا من ثقافته وهويته وحياته اليومية.
الفترة الثانية، وقد عرفت بعصر "السينما التركية الحديثة"، بدأت في نهاية التسعينيات، بعد أن مرت بانتكاسات اقتصادية وسياسية على مدار عقد من الزمن، تخللها تأثير شركات التوزيع الأميركية التي تغلغلت في السوق التركية على غرار باقي الأسواق العالمية والغربية والأسيوية. لكنها ما لبثت أن عادت ونهضت من عثرتها بفضل بعض المخرجين المستقلين أمثال نوري جيلان ودرويش زعيم ويشيم أوغلو وزكي دوبوز وغيرهم، إضافة إلى إسهامات وزارة الثقافة والسياحة التركية التي دفعت بالصناعة نحو الأمام من خلال زيادة عدد الجامعات الخاصة بتدريس السينما وصناعتها، وإقامة مسابقات خاصة لكتابة السيناريو وتفعيل دور المهرجانات السينمائية، وفتح حلقات وصل مع المهرجانات العالمية، ونجاح بعض الأفلام في الوصول للجوائز الدولية كفيلم "ثلاثة قرود" لنوري جيلان الذي حصل على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي عام 2008، وكذلك فيلم "سبات شتوي" الحاصل على السعفة الذهبية عام 2014.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هذه الإنجازات المتتالية غذّت الصناعة السينمائية داخل البلاد، ودفعت بالمنتجين والمشتغلين للاهتمام بها باعتبارها شريان الترفيه الأغلى للشعب التركي، بموازاة ما تحققه الدراما في الخارج. وقد أدرك صناع السينما أهمية هذه الخصوصية ومخاطر المراهنة عليها خارجًا، ولا سيما حين لا تقل عائدات شباك التذاكر عن تلك التي تحققها شبابيك التذاكر في السوق الهندية، وهي عائدات تضاهي بحجمها عائدات السوق الأوروبية والأميركية.

كرة الدراما الثلجية

صحيح أن المنتجين والموزعين الأتراك باتوا في الآونة الأخيرة منفتحين على فكرة الدخول إلى السوق العربية، لأسباب عديدة، أولها نجاح الدراما في السوق العربية، والشهرة التي اكتسبها الممثلون الأتراك لدى الجمهور العربي، إضافة إلى الروابط الجغرافية والانتماءات الثقافية والعقائدية التي تجمع بين العرب والأتراك، إلا ان كل هذه العوامل لم تكن كافية لاختراق السوق العربية، واستعراض شكل التسويق والتوزيع اللذين جرتهما معها كرة الدراما الثلجية عبر المحطات والقنوات العربية. والسبب الرئيسي يعود إلى ضعف الإنتاج السينمائي العربي بطبيعة الحال.

تولي شركات الإنتاج العربية اهتمامًا أكبر بالدراما على عكس السينما، نظرًا لشعبيتها وأهميتها لدى الجمهور العربي وخصوصيتها التراكمية والتاريخية التي جعلتها المطلب الأول في عالم الترفيه، على عكس السينما التي تعاني من مشكلات جمة، منها الواقع السياسي المتأزم في معظم البلاد العربية، وتخلي القطاعات العامة عن دعم الإنتاج السينمائي، وغياب الحضور الدولي، وغيرها من مشكلات جعلت الصناعة السينمائية في العالم العربي متأخرة بخطوات عن الصناعة الدرامية. وبالتالي، أصبحت رهانات المنتجين محصورة بالأعمال الدرامية المحلية والمشتركة والعربية وكذلك التركية المدبلجة (التي لا تتطلب ميزانيات عالية)، مبتعدة قدر المستطاع عن أية اشتباكات أو استثمارات سينمائية إقليمية أو دولية إلا النزر اليسير.

المساهمون