أحد أبرز مظاهر العمران لبغداد القديمة، باتت مهددة بالتلاشي بعد عقدين من الإهمال والتخريب، ويشير البغداديون بأصابع الاتهام إلى أمانة العاصمة العراقية وجهات حكومية وسياسية متنفذة أوغلت بتدمير المباني التراثية ذات الشناشيل وهدمها تحت ذرائع الاستثمار أو التطوير، بينما لا تزال الأخرى، وهي قليلة جداً، عبارة عن خرائب تركها أصحابها أو استثمروها في تأجيرها كمخازن للبضائع.
والشناشيل، وهي شرفات منازل البغداديين القديمة المطلة على الشوارع الرئيسة في جانبي الكرخ والرصافة، أو نهر دجلة، مشتقة من كلمة تركية قديمة تعني شرفة السلطان. وكانت تبنى الشناشيل من الطابوق، قاعدتها تكون في الدور الأرضي مع شرفة ترتفع من الخشب في الدور الثاني من المنزل، وتطل عادة على ضفة النهر أو الشارع، وتاريخيّاً عرفت بغداد هذا النوع من البناء خلال الحقبة العثمانية.
ووفقاً لناشطين عراقيين مهتمين بتراث العاصمة العراقية، فإن العام الماضي شهد هدم أكثر من 90 مبنى تراثيا قديما في بغداد، كما شوهت عشرات أخرى بتغليفها بمادة "الكوبون" المعدنية أو طلائها وإجراء ترميم عليها بشكل أدى إلى إخراجها من تصنيف المباني التراثية. ويقدم هذه الأرقام الناشط أحمد الشيخلي الذي ساهم مع زملاء آخرين له في إطلاق حملة سابقة للتوعية بأهمية تلك المباني.
وقال الشيخلي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن المطلوب سن قانون يحفظ تلك المباني ويمنحها الحصانة بوجه آلة الهدم ووحش الاستثمار، متحدثاً عن كنيسة يعود تاريخها لأكثر من 200 سنة هدمت، ومنزل تاريخي يعود إلى القرن الثامن عشر قرب دجلة تحول إلى مخزن ثم افتعل حريق فيه ليدمر بعد أشهر ويعرض كفرصة استثمار على أحد المتنفذين الذين لهم صلة مع حزب معروف، معتبراً استمرار هدم تلك المباني فيه خطر على هوية بغداد التاريخية.
الشاعر والأديب العراقي شاكر الساعدي رأى أن "الأشياء الجميلة التي تتحدث عن بغداد تتلاشى تدريجياً ومنها الشناشيل". وأضاف لـ"العربي الجديد": "لماذا يهدمون الشناشيل لبناء محلات تجارية في مكانها؟ هذا تاريخنا ارحموه ليعرف الجيل القادم تاريخه ومن هو".
وفي منطقة البتاوين القديمة وسط بغداد، قال جليل متحف، لـ"العربي الجديد"، إن الأمر لا يقتصر فقط على الشناشيل، بل أمور كثيرة في بغداد مهددة بالزوال، وتعد الشناشيل رمزاً بغدادياً عريقاً، ولا توجد في أي بلد آخر غير العراق، وأول من شيدها الطائفة اليهودية في العراق". وأضاف: "مع الأسف بكل سهولة اليوم يزيلون الشناشيل لبناء محلات تجاريها بدلاً عنها، أذكر قبل فترة قصيرة أن زائرة أجنبية جاءت تسأل عن شارع المتنبي لتطلع على الشناشيل البغدادية، ومن خلالكم نطالب الحكومة العراقية بالحفاظ على الشناشيل، العراق بلد الحضارات والشناشيل من موروثنا الحضاري".
وناشد الناشط فليح حسن السلطات في بغداد قائلاً: "ارتبطت الشناشيل بالمناطق البغدادية العريقة مثل الفضل والأعظمية والكاظمية وفي الكرخ الرحمانية والعلاوي والصالحية شارع الإذاعة، وبالتالي عليكم أن تحافظوا على هذا التراث. يجب أن تزهو بغداد بشناشيلها، لأننا أبصرنا نور بغداد بشناشيلها وعليه نتمنى المحافظة عليه".
عبود عزيز، وهو كاتب عراقي، قال لـ"العربي الجديد" إن "الحكومات المتعاقبة التي مرت على العراق جعلت بغداد خربة. يفترض بالحكومات الاهتمام الذي لم نره منها قط، حتى صرنا نخجل أن يرى أي زائر لبغداد ما آلت اليه اليوم من خراب، لأن هذه الصورة لا تشبه بغداد التي عشناها". ورأى عزيز أنه "من المفروض أن تكون بغداد بما يتناسب وعمقها التاريخي وثقافتها، ونرجو من الحكومة وأمانة بغداد الاهتمام بالمدينة، هناك دول لا تملك إمكانات بغداد المادية والمعنوية والتاريخية، ونراها زاهية ومتحضرة، في حين بغداد ذات العبق التاريخي والحضاري الكبير لا يوجد فيها أي اهتمام".