لا شك عند أيّ ناقد حصيف أنّ مسرحيات الشاعر الإنكليزي وليام شكسبير شكلت وما زالت تشكل منبعاً لا ينضب لإلهام المبدعين، بإنتاج الأعمال المسرحية وإخراجها، وأيضاً الأفلام السينمائية.
استطاعت الأفلام الشكسبيرية، التي يقدر عددها بأكثر من 500 فيلم، أن تخلد الشاعر أكثر من ما هو خالد أصلاً بأعماله المسرحية التي جُسّدت على خشبات العالم، وبكل اللغات، منذ أن كتبها في القرن السادس عشر، وحتى الآن.
ما دفعني إلى ملاحقة آثار شكسبير السينمائية، هو مشاهدة عملين سينمائيين مستوحيين من مسرحياته، أحدهما "مأساة ماكبث" للمخرج جويل كوين، بالأسود والأبيض، من إنتاج 2021، وهو مرشح لجائزة "أوسكار" لهذا العام عن فئة أفضل ممثل لدينزل واشنطن الذي يلعب دور "ماكبث". وهذه هي المرة الأولى التي أسند فيها الدور إلى ممثل من ذوي البشرة السوداء. وثانيهما فيلم "أوفيليا" (Ophelia)، المنتج عام 2018، المتاح حديثاً على شبكة "نتفليكس"، للمخرجة الأسترالية كلير مكارثي، والمأخوذ عن مسرحية شكسبير "هاملت". يركز العمل على شخصية "أوفيليا" (أدت الدور الممثلة ديزي ريدلي)، الشاهدة على كل الأحداث، والتي وصفت بالشخصية البريئة الوحيدة في هذا العمل الذي يقوم على الغدر والخيانة.
استطاع المخرج جويل كوين، ومن دون أخيه إيثان هذه المرة، تقديم عمل صوره بالكامل على خشبة مسرح، وبالأسود والأبيض، عن الملك الإسكتلندي" ماكبث"، وصراعه مع النبوءة القاتلة، مستخدماً التلاعب بالظل والنور.
قدم كوين، أيضاً، صورة سينمائية مبتكرة للساحرات الثلاث، إذ قامت الممثلة كاترين هانتر بلعب دور الساحرات، فتؤدي دور كلّ ساحرة بشكل منفرد، ودور الساحرات الثلاث معاً عندما يتحدن بجسد واحد، بليونة لافتة، وبصورة مبدعة، إذ تتحول الساحرات إلى أشكال أخرى، كالطيور أو الزوابع أو الأشباح.
لم يكن فيلم "مأساة ماكبث" الأول المستوحى من مسرحية شكسبير، إذ تشير الأرقام إلى قرابة خمسين فيلماً مستوحاة من قصة "ماكبث" وزوجته. بدأت هذه الأفلام بعمل أميركي، مدته سبع دقائق، من إخراج مجهول، صدر عام 1898، لينتج بعده فيلم صامت بالأبيض والأسود عام 1916، بتوقيع جون إيمرسون، وتلاه عدة أفلام، منها فيلم "فالستاف" لأورسون ويلز عام 1948، المستوحى من توليفة أربع مسرحيات لشكسبير، منها "ماكبث"، وهو أيضاً قد أخرج فيلمين آخرين مقتبسين عن شكسبير، أحدهما عن مسرحية "عطيل"، والآخر عن "هاملت". اعتبر ويلز شكسبير أهم سيناريست أفلام، رغم ولادته قبل ميلاد الفن السابع.
أما فيلم "عرش الدم" (1957)، للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا، فقد نقل "ماكبث" من القرون الوسطى الإقطاعية الأوروبية إلى اليابان الإقطاعية.
ومن الأفلام المميزة المقتبسة عن ماكبث، فيلم المخرج رومان بولانسكي الصادر عام 1971، وفيلم جيفري رايت (2006)، وفيلم "ليدي ماكبث" من إخراج وليام أولدرويد الذي أنتج عام 2016.
ويشير الناقد السينمائي إبراهيم العريس إلى أنّ أكثر مسرحيات شكسبير اقتباساً في السينما هي مسرحية "روميو وجولييت"، بمعدل 150 فليماً، منها فيلم باز لوهرمان (1996)، من بطولة ليوناردو دي كابريو، وفيلم صدر العام الماضي للمخرج نيك أفينس.
وبعد مسرحية "روميو وجولييت"، تأتي مسرحية "هاملت" بمعدل 120 اقتباساً، ومن ثم "عطيل" في 40 فليماً، أما "أنطوان وكليوبترا" و"الملك لير"، و"يوليوس قيصر" و"تاجر البندقية، و"ترويض النمرة"، فما بين خمس إلى عشرين مرة. وهذه الاقتباسات كلها معلنة، فضلاً عن مئات الاقتباسات غير المعلنة.
ما يلفت النظر، أنّ هذا الفيلم ليس الوحيد الحاضر في "أوسكار" هذا العام بالأسود والأبيض، بل يشاركه ذلك فيلم "بلفاست" (Belfast)، للمخرج كينيث براناه، والمرشح لسبع جوائز، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج. يروي المخرج جانباً من سيرته كطفل عاش في إيرلندا الشمالية، إبّان التوترات الطائفية بين البروتستانت والكاثوليك أواخر ستينيات القرن الماضي. ويذكر أنّ المخرج سبق أن قدم عدة أعمال مستوحاة من شكسبير، منها فيلم "هاملت" الصادر عام 1996.