في الحلقة الثانية من حوار "العربي الجديد" معها، الذي يتناول أساساً فيلمها الوثائقي "7 شتاءات في طهران" (2023)، تعاين الألمانية شتيفي ندرزول أحوال إيران والسينما الألمانية والعروض التجارية، إلى جانب تحليلها آليات اشتغالها السينمائي.
(*) عرضت مقاطع تُصوّر ماكيت غرفة السجن، حيث اعتقلت ريحانة. ما الغرض منها: جعل الناس يُحسّون بوضعيّتها في الاعتقال والحياة في السجن؟
في الواقع، بدأ الأمر بالرسائل التي توفّرت لديّ. عام 2014، قبل إعدام ريحانة، بدأت كتابة رسائل للدفاع عن نفسها، وكانت هذه المرة الأولى التي تحكي فيها قصتها، بعد أنْ كان الآخرون يكتبون حولها. كان لديّ أكثر من ألف صفحة من المذكرات التي كتبتها في السجن. بالنسبة إليّ، هذا النص مُهمّ جداً لفهم حياتها الداخلية. لذا، أردت حقاً منحها صوتاً.
مُهمّ أيضاً أنْ أحصل على مجموعة من تلك الرسائل منطوقةً من داخل السجن، لأنّها لم تكن تتمتّع بوضع السجينة السياسية. لم يُستَمع أحياناً إلى المكالمات الهاتفية التي تجريها مع والدتها، التي سجّلتها ورقمنتها ونشرتها. كانت مهمّة للغاية بالنسبة إليّ، لكنْ لم تكن ترافقها أيّ صورة. في وقت باكر جداً من الاشتغال، أردت أنْ أرفقها بقصيدة بصرية، تخصّها فقط، فظهرت تلك الغرفة الفارغة في رأسي. كان جميلاً أنْ أعطي صوتاً مُجرّداً مساحةً رنّانة يتردّد فيها.
قرّرت تشييد هذه الأماكن المهمة للقصّة. لكنّي لم أتمكّن من بلوغها. أجريتُ بحثاً مُعمّقاً عن تلك الأماكن، فأتيحت لي فرصة مقابلة نزيلات في الزنزانة نفسها. في البداية، أردت تشييد الماكيت بمسحة تجريدية. لكنْ، بعد ذلك، أدركت أنّ التزام الواقعية أنسب. بحثت أكثر، فحصلت على صُور كثيرة لم يُتح لي التحقّق من صحّتها. تحدثت مع سجينات كثيرات لفهم كيف يبدو المعتقل. في بداية الفيلم، عند الذهاب إلى سجن "شهر راي" بفضل الماكيت، أعلم أنّ هذا يبدو كثيراً مثل شكله الحقيقي. حتى التفاصيل الصغيرة، كالوسادة، صورة مُصغّرة لوسادة ريحانة.
(*) اخترت الممثلة الإيرانية زار أمير إبراهيمي لتؤدّي صوت ريحانة. لماذا هذا الاختيار؟
مُهمّ جداً لي أنْ تؤدّي صوت ريحانة ممثلة إيرانية، لها خلفية نضال من أجل حقوقها في المجتمع الإيراني. صديقٌ مُقرّب عرّفني إلى إبراهيمي. منذ اللحظة الأولى التي رأيتها فيها، أدركت أنها ستكون مثالية لتأدية صوت ريحانة، فاقترحت عليها ذلك، وقبلت بعد مشاهدة النسخة الأولى من المونتاج. عملَت بجدّ على الصوت، وكيفية أدائه بالشكل المناسب. بالنسبة إليّ، توفّقت في ذلك، لأنّها وضعت معاناتها الخاصة في صوتها. لذا، الصوت الأصلي لريحانة وصوتها مرتبطان بشكل وثيق للغاية، بالنسبة إليّ على الأقلّ، لأنّي أرى الارتباط في آلامهما.
كنت محظوظة بالعمل معها، قبل نجاحها الكبير في "عنكبوت مُقدّس" (للمخرج الإيراني السويدي علي عباسي، 2022 ـ المحرّر)، الذي نالت عنه جائزة أفضل ممثّلة في مهرجان "كانّ" (الدورة الـ75، بين 17 و28 مايو/أيار 2022 ـ المحرّر). لأنّها، بعد ذلك، لم يكن ليتوفّر لديها الوقت، على الأرجح، للتمكن من صوت ريحانة، واستثمار طاقة كثيرة في الاشتغال عليه.
(*) إلى أيّ حدّ تعتقدين أنّ فيلمك ساهم في تغيير وضع حقوق المرأة في إيران؟
بدأت العمل عليه عام 2017. صدفة حقاً أنّه انتهى مباشرة بعد بدء الثورة الإيرانية. لهذا السبب، حظي بجمهور أوسع، واهتمام أكبر. آمل أنْ يساهم ذلك في إظهار أنّ قمع النساء الإيرانيات لم يبدأ في 16 سبتمبر/أيلول 2022 (مقتل مهسا أميني، واندلاع ثورة النساء في إيران ـ المحرّر). عبر قصة ريحانة، يمكن رؤية أنّ إيرانيات يتعرّضن للاضطهاد بشكل منهجي. آمل أنْ أتمكن من المساهمة قليلاً في حركة تحرير المرأة، بهذا الفيلم، عبر خلق الوعي بالقمع المنهجي الذي تتعرّض له النساء، وأيضاً بمدى قوتهنّ ونضالهنّ من أجل حقوقهنّ وحريتهنّ في التعبير.
(*) يُقال إنّ الفيلم الوثائقي يكون ناجحاً حين يكون بوسع مخرجه مُشاهدته مع من أنجزه برفقتهم. كيف استقبله أفراد عائلة ريحانة؟ ما شعورهم تجاهه؟
كما رأيتَ في الفيلم، فإنّ أفراد عائلة ريحانة مختلفون للغاية. جميعهم أحبّوه، وهم فخورون به. أخصّ بالذكر شارار (شقيقة ريحانة ـ المحرّر)، لأنّها انطوائية للغاية. ربما تحب وجود الفيلم، لكنّها تودّ لو لم يشاهده أيّ من معارفها. على العكس من ذلك، شوليه مثلاً سعيدة للغاية أنْ تُسرَد قصة ريحانة، وتتمّ مشاركتها، وأنْ يعرف أناس كثيرون في العالم مصير ابنتها. أما شهرزاد، الأخت الصغرى لريحانة، فشاهدته أكثر من 100 مرة، وكلّما أُتيحت لها إمكانية الذهاب إلى السينما لإعادة مشاهدته، لم تكن تفوّتها. أستطيع القول إنّ جميع أفراد الأسرة سعداء به، لكنّهم يتعاملون بشكل مختلف مع هذه التجربة، المؤلمة للغاية، التي يسردها.
يتعيّن أيضاً الأخذ بالاعتبار أنّ الأمَّ الوحيدةُ في العائلة التي تحدّثت عن القضية، بينما لم يتحدّث أفراد الأسرة الآخرون علناً عنها قبل التصوير، ما شكّل خطوة كبيرة جداً لمشاركة أفكارهم ومشاعرهم تجاه الفقيدة ريحانة.
(*) لماذا كانت الأم تردّ بأريحية على الأسئلة، بينما نشعر أنّ الأب متوترٌ بعض الشيء؟
لا أعلم. لكنْ أستطيع القول إنّ شوليه باكرافان، باعتبارها ممثلة، مُعتادة على الكلام واللعب على المسرح. لذلك تحدّثت كثيراً عن قضية ابنتها في وسائل الإعلام. بينما لم يتحدّث فريدون جبّاري، والد ريحانة، قط مع صحافي أو مخرج أفلام أو إعلامي عن ابنته وقضيتها. إنّها المرة الأولى التي يتحدّث فيها على المستوى العام.
من ناحية أخرى، أجريتُ المقابلة مع فريدون عبر الإنترنت، لأنّه بقي في إيران، عكس باقي أفراد العائلة، المتواجدين في ألمانيا وتركيا. كان بإمكانه طبعاً رؤيتي وسماعي، لكنّ الأمر مختلف دائماً عمّا إذا كنت معه في الغرفة نفسها. ينبغي القول إنّ فريدون هو الذي أثّر فيّ أكثر، ربما، لشعور بمدى انكساره بسبب المصير الرهيب لابنته، لكنْ أيضاً بتبعاته التي جعلته يبقى وحيداً في إيران، بعيداً عن عائلته. أظنّ أن هذا ثمنٌ عالٍ آخر تحمّلته العائلة، في نضالها ضد عقوبة الإعدام في إيران.
(*) كيف كانت ردة فعل الإيرانيين الذين شاهدوا "7 شتاءات في طهران" في مهرجانات خارج إيران؟ كيف استُقبل دولياً، عامة؟
ما أنا فخورة به حقاً أنّ جمعية إيرانية دولية، أُنشئت قبل "مهرجان برلين"، تضمّ جميع مخرجي الأفلام الإيرانيين المستقلّين، الذين يرفضون التعامل مع النظام، تواصلت معي بعد مشاهدة أعضائها الفيلم في عرضه الأول، ثم أصبحت عضوة شرفية فيها، لأنّهم رأوه مهمّاً لمقاصد جمعيتهم، ولإظهار وضع حقوق الإنسان في إيران. أثّر فيّ الأمر حقاً، لأنّي كنت خائفة بعض الشيء من ردّة فعلهم. إيران إحدى أهمّ دول السينما في العالم. نحن نتحدّث عن أمّة سينمائية للغاية، مع مخرجين موهوبين، إناث وذكور، وأعمال ذات جودة عالية. كنت أعلم أنهم سيكونون مُتشكّكين للغاية، لكنّهم جاءوا جميعاً إليّ بعد مشاهدته، وقالوا: "لم نكن نتوقّع كثيراً من فيلمك. لكنْ، عندما شاهدناه، غيّرنا رأينا". كنت أعلم أنّهم نقّادٌ شرسون ومُطّلعون. لهذا، أسعدني رأيهم جداً. طبعاً، هناك أشخاص لم يكونوا سعداء به، لكنّي، عموما، حصلت على ردود إيجابية للغاية، لأنّ أغلب الناس شعروا بأنّي اشتغلت كثيراً، أو أقلّه حاولت إعطاء ريحانة صوتاً، وألاّ أستخدمها.
(*) هل حقّق الفيلم نجاحاً جيداً في دور العرض في ألمانيا؟ كيف تؤدّي الأفلام الوثائقية بشكل عام في الصالات؟
الفيلم معروض في ألمانيا حالياً، وفي الصالات الفرنسية منذ مارس/آذار الماضي. أداؤه جيدٌ جداً. في ألمانيا، الأمور لا تسير على ما يرام. يُقبِل المشاهدون عندما أكون أنا وشوليه حاضرتين للنقاش بعد العرض. عندما لا نكون، لا يذهبون إلى الصالات. أعتقد أن ألمانيا ليست دولة سينما. بعد كلّ ما أُنتِج في الحرب العالمية الثانية، والبروباغندا التي رافقتها، وبعد ذلك في الخمسينيات والستينيات، سادت الأفلام الكوميدية السعيدة والغبية، ولم تنتعش أي حركة سينمائية حقيقية. نحن لا نذهب كثيراً إلى دور العرض، ولا نقدّر مخرجينا الألمان. هل سمعت يوماً أحداً يقول: "أحب السينما الألمانية؟" (ضحك).
هناك اهتمام بهذا الفيلم، وبالوثائقي عامة، في ألمانيا، لكنْ ليس بالشكل الكافي، بتصوّري. يلزم تطوير الثقافة السينمائية لترسيخ تقدير السينما لدى الشباب، ليفهموا أنّها فنّ قائم بذاته، وليُدركوا مدى تعقيدها وثرائها. السينما إحدى أكثر وسائل التواصل تعقيداً في عصرنا، لأنّنا لا نتواصل بالكلمات فحسب، بل بالصُوَر والأصوات والموسيقى والحركات والأضواء والألوان. الأمر مُعقّد للغاية. في ألمانيا، يبدو مرتبطاً بمسألة الترفيه أكثر مما يلزم. أعتقد أنّ ألمانيا بلد جيد جداً لاستغلال إنتاجات كبرى وأفلام رائجة. لكنْ ليس كثيراً للأفلام الوثائقية، خاصة تلك التي تحتوي على موضوعات "ثقيلة". هناك، قيل لي مراراً: "شتيفي، أنا آسف، لا أستطيع الذهاب إلى فيلمك، لأني متوجّس من طبيعته". حين يأتون لمشاهدته، يُحبّونه حقاً ويُقدّرونه. لكنّ دفعهم إلى الذهاب لمشاهدته شيء آخر. لا أفهم ذلك. الفيلم قاسٍ إلى حدّ ما، لأنّ القضية عنيفة، لكنّي لا أظهر فيه إسرافاً في العنف.
(*) أعتقد أنّ له تأثيراً مُطهّراً، بطريقة ما، لأنّه حتى لو كان مصير الشخصية الرئيسية محزناً وقاسياً، فالفيلم ضروري لأنّ الشخصية تقاوم إلى آخر رمق.
بالتأكيد. بالنسبة إليّ، إنّه أيضاً مُفعم بالأمل، لأنّ لمسار العائلة تأثيراً مُدهشاً، يفتح عيني المُشاهد. يدافعون عن حقوقهم، ويصارعون من أجلها حتى النهاية. أعتقد أنّ ريحانة وشوليه مصدر إلهام كبير بالنسبة إليّ. للجميع لحظات ملهمة جداً، يغدو معها "7 شتاءات في طهران" فيلماً عن الحبّ والأمل.