سينما ممنوعة في طرابلس: كأنّ الفيلمَ وباءٌ

12 يونيو 2024
طرابلس اللبنانية: فقرٌ وبؤسٌ يستغلّهما سياسيو الأمر الواقع (فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في بلدان تشهد انهياراً في القيم والثقافة، تستخدم الرقابة بأشكالها المتعددة كأداة لتعزيز سطوتها وتجهيل الشعوب، مستهدفةً الفنون والآداب لخنق أي صوت مستقل يقدم نقداً أو بديلاً ثقافياً.
- تمتد الرقابة لتشمل الأحداث الثقافية، كما في منع مهرجان كابريوليه للأفلام في لبنان، مما يعكس رغبة السلطات في الحفاظ على الوضع القائم ومنع التغيير الثقافي والفني.
- الشكاوى والانتقادات ضد الرقابة تتكرر دون تحقيق تأثير ملموس، مع استمرار السلطات في فرض سيطرتها وتجاهل الدعوات للحرية والديمقراطية، مما يترك المجتمع في حالة من العجز واليأس تجاه التغيير الحقيقي.

يستحيل الخلاص من الرقابة، بأنواعها كلّها، في بلدٍ يزداد انهياراً في قيم وثقافة ووعي ومعرفة وعلم. سطوة الطائفيّ ـ المذهبي والسياسي والاجتماعي والقبائلي والمليشياوي (وإنْ من دون سلاح أحياناً، وهذا أخطر) أقوى من تفكير بكيفية تحقيق خلاصٍ كهذا. فالرقابة جزءٌ أساسيّ من تفعيل تلك السطوة، والهدف مزيدٌ من تجهيل وتقوقع وانفضاض عن غربٍ، وفي الغرب مصائب يُمكن تحاشيها، لكنّ فيه قيماً وثقافة ووعياً ومعرفة وعلماً، يُمكن للمهتمّ والمهتمّة الاستفادة منها.

والرقابة، بوصفها نتاجِ رقابات تلك الجهات، وكلّ جهة أخطر من غيرها في ممارسة سطوتها بالرقابة، وبوسائل أخرى أيضاً؛ هذه الرقابة ترفض كلّ ما تظنّ أنّه يمسّ حضورها وسلطتها، أي حضور الجهات المتحكّمة بها وسلطاتها. تنقضّ على ما تراه مناسباً لتغطيةٍ على أفعالٍ سيئة لها، أو كي تُهدِّد وتُخيف، كي تمنع كلّ خارج عليها ومنها. أحد أبرز ما تظنّ أنّه يمسّ حضورها وسلطتها، أو يُستخدم لتغطية وتهديد وتخويف، متمثّل بفنون وآداب، فالأسهل لها مقارعة فنّ وأدب، لأنّ الفنان والأديب، المستقلّين عن كلّ جهة طائفية ـ مذهبية أو سياسية أو قبائلية أو مليشياوية أو اجتماعية، غير قادِرَين على حماية نفسيهما من الجهات تلك، الأشرس في مواجهة فرد، والأضعف في مواجهة جماعة متّحدة في تسلّطها على أبنائها وبناتها.

كلامٌ كهذا مُكرّر، ومع كل فعل رقابيّ، أياً يكن شكله وأسلوبه، يُستعاد كلامٌ كهذا من دون أنْ يؤثّر الكلام بأحدٍ أو بحالة. كأنّ الرقابة تتباهى خفية بـ"حرية رأي" يُقال ضدها، لأنّها تدري عَجز مَنْ يواجهها عن تحقيق شيءٍ ينتقص من سطوتها وتسلّطها: "ستقولون ما تريدون، لكنّي سأفعل ما أشاء"، وهذا فعلٌ يومي لرقابةٍ تصبّ غضبها على فنّ وأدب. المشكلة أنّ بعض الفنّ والأدب، المُعرّض للرقابة، غير مُنتِجٍ تجديداً وإبهاراً وقدرة على حثٍّ مطلوبٍ على إعمال تفكير وتأمّل، فيتحوّل الأقلّ أهمية أو اللامهمّ إلى نجمٍ ـ بطل في مواجهة الرقابة، لأنّ الرقابة، بمنعها أعمالاً له ولها، تجعلهما نجماً ـ بطلاً في الدفاع عن ديمقراطية وحرية رأي.

 

 

كلامٌ كهذا متأتٍ من منع إقامة مهرجان لبناني مهتمّ بالأفلام القصيرة في طرابلس (شمالي لبنان)، في السابع من يونيو/حزيران 2024. "مهرجان كابريوليه للأفلام" يُقام سنوياً في النصف الأول من يونيو/حزيران، في بيروت، منذ 16 دورة. اختياره طرابلس، هذا العام، متوافق والاحتفال بالمدينة عاصمة للثقافة، والمدينة تجهد في الاحتفال، رغم عوائق جمّة يصنعها سياسيون ورجال دين وجهات متشدّدة، تحول أصلاً دون إنقاذ المدينة وناسها من فقرٍ وبؤس وخراب وقهر، مع أنّ للمدينة وناسها تاريخاً حافلاً في ثقافة وفنون وسياسة وتفكير ونضال واجتماع وعيش، أي في حياة طبيعية وجميلة.

هذا كلّه مرفوض، فقوى الأمر الواقع حالياً تريد المدينة خراباً، لتقوية سطوتها على ناس المدينة، ولجعلها إياهم وقوداً لحروبها ونزاعاتها ومصالحها.

كلامٌ كهذا مُكرّر، مع أنّ لا شيء نافعٌ، والكتابة الرافضة للرقابة، أي للمنع والخنق والتشدّد، غير مؤثّرة البتّة. كلامٌ مُتشدّد يتفوّه به رجل دين كافٍ لمنع وخنق وتشدّد، بينما كتابةٌ هادئة تريد قولاً مغايراً، وفعلٌ واقعي يبغي صُنع منافذ تواصل ولقاء ونقاش، يُرفضان ويُمنعان ويُحارَبان، ويُخوَّن من يصنعهما أحياناً، والتخوين أسوأ آفةٍ وأخطرها. عرضُ أفلامٍ في مدينةٍ تتوق إلى متنفّس جميل، كالسينما، يواجَه بشراسة، كأنّه وباء أو قاتل. أمّا تفشّي الفقر والقهر والتقوقع والنبذ والإذلال والتغييب وكمّ الأفواه والتهجير، في تلك المدينة ومدن أخرى، فغير مُثير لأي رجل دين ولأي رجل آخر نافذ، هنا وهناك.

إنْ يكن كلامٌ كهذا، يُكتب في مقالة أو يتردّد في لقاء، غير مؤثّر وغير فاعل، فإنّ كلّ بيانٍ، يصدر ردّاً على منع وخنق وتشدّد، غير نافع بدوره، باستثناء أنّه، كالكلام نفسه، يُبيِّن أنّ اختلافاً لا يزال موجوداً في البلد، وإنْ من دون فعالية تُذكر. لذا، يُلحّ سؤال: أهناك فعلٌ ميداني يُمكنه تغيير الحاصل، أم أنّ هناك اكتفاءً بكلامٍ وبيان، إذْ لا إمكانية لغيرهما بالنسبة إلى رافضي كلّ أشكال الرقابات؟ الإجابة واضحة: "لكم ولكنّ كلامٌ يُكتب ويُقال، وكفى. ولنا رقابة باقية إلى أبدِ السلطات الباقية".

المساهمون