- الفيلم يتناول الجانب الإنساني والرومانسي في مواجهة الظروف القاسية، مستخدمًا العواطف البشرية كوسيلة للمقاومة والتحدي، ويسلط الضوء على محاولات ستيفان اليائسة لإنقاذ نورا.
- يحذر من مستقبل قاتم يهدد البشرية بالتحول إلى آلات في عالم محدود، مؤكدًا على أهمية الحفاظ على البيئة وضرورة التغيير لتجنب الكوارث البيئية والحروب.
قدّمت أفلام عدّة استشرافات مستقبلية، اتّضحت معالم بعضها أو أكثرها حاضراً أو قبلاً، وربما في الآتي، خاصة تلك المختصّة بالخيال العلمي تحديداً، أو التي تناولت مواضيع جامحة وغير اعتيادية، تراوحت بين أمراض فتّاكة وفيروسات مجهولة وكوارث مميتة واختراعات مذهلة، إلى حروب دامية ومؤامرات مفصلية واكتشافات مريبة، وغيرها مما استطاع الخيال البشري بلوغه. لذا، باتت السينما أداة ضرورية ومهمّة لتمكين الإنسان من فهم الماضي والحاضر، والمستقبل.
نحا فيلم التحريك المجري ـ السلوفاكي "سماء بلاستكية" (2023)، لتيبور بانوتسكي وسارولتا زابو (إخراجاً وكتابة)، هذا النحو. تميّزه وحسّه الاستشرافي نابعان من موضوعه المختلف والمفزع، بتقديمه مقاربة لما يمكن أنْ يكون عليه العالم سنة 2122. حينها، دُمِّر العالم، وأصبح قاتماً وخالياً من أشكال الحياة التقليدية المعروفة اليوم، بعد تلوّثه، وتحوّله إلى أكوامٍ كبيرة من ركام ومبان مُدمّرة وطرق مقطوعة ومدن خَرِبة. لذا، خُلقَت حياة بديلة، في مدينة صغيرة مغطاة ومحمية من الخارج بقبة بلاستيكية، يعيش أناسٌ منتقون بعناية فائقة فيها، وفق نظام صارم ومختلف وقاس. عمر المرء فيها محدود، ولا يمكنه الزواج متى يشاء ولا الإنجاب، ويقتات حبوباً مُنكّهة.
عام 2122، تتناقص الموارد، ولا يمكن للجنس البشري العيش إلّا بالمقايضة. ببلوغه 50 عاماً، يتحوّل كلّ مواطن تدريجياً إلى شجرة. يكتشف ستيفان (تاماس كيريستش) أنّ زوجته نورا (صوفيا زاموسي) وافقت على التبرّع بجسدها، فيعمل على إنقاذها. نورا قرّرت هذا قبل بلوغها 50 عاماً، لإحساسها بوحدةٍ رهيبة بعد فقدانها ابنها بطريقة مأساوية. لذا، قرّرت التبرّع لتصبح شجرة في المعمل الكبير، لكنّ ستيفان تفَطّن لهذا، فبدأ البحث عن طريقة لمنعها، بل لإفساد خطتها قبل التحوّل، خاصة أنّها تناولت الحقنة، وأجرت العملية، وبُرمجت في المؤسّسة، وهذا لا يمكن منعه، لأنّه أصبح واقعاً في الآلية الكبرى. عندها، زُوِّرت شهادة عبور عند شخص محترف، وحصل على بطاقة مهنية جديدة في معمل خارج المدينة، حيث يُعتنى بالجثث التي ستتحوّل إلى أشجار.
يصل الزوج إلى المعمل بصفته مختصّاً نفسياً، ويتعرّف على الطبيبة مادو (جوديت شيل)، الحانقة والرافضة آلية الحياة الجديدة وقسوتها. تُخبره أنّ باحثاً (جيزا جي هجادوش) يعمل على إيجاد حلّ لمنع التحوّل، لكنّ مختبره بعيدٌ، ويلزم خمسة أيام للوصول إليه. في الوقت نفسه، تُعطيه معطيات علمية تكوّنت لديها بفضل تجارب أجرتها، يمكنها تأخير التحوّل قليلاً، وتنفع في أبحاث العالِم. يخطف ستيفان جسد زوجته، التي بدأت تتحلّل، ويسافر بها في فضاءات ممتدة، ويلحق بالباحث قبل الوقت المحدّد للتحوّل. في الطريق، تقع أحداثٌ عدّة، نتيجة بُعد المسافة، واختلاف آليات المواصلات المستعملة. هذه فرصة لرؤية دمار العالَم، وتحديداً بودابست ومحطة القطار المشهورة فيها.
رغم طغيان الخيال والعِلم والنظرة الاستشرافية، لم يتخلّ "سماء بلاستيكية" ـ الذي اختير رسمياً خارج مسابقة الدورة السادسة (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ عن العواطف البشرية وانفعالاتهم، رغم محاصرتهم ومحاولة "الآلة" والتقدّم العلمي أن يلغيها، فانتصر الجانب الرومانسي، واستحوذ على جزءٍ من تصنيفه، إذْ أعطاه المخرجان نَفَساً مختلفاً ساعد على فهم أبعاده ورسائله المتعددة، بل إنّها تنبيهاتٌ أكثر منها رسائل، لأنّه إنْ لم يُحصَّن هذا العالم من الأخطار الكبيرة، خاصة البيئية، فسيحدث تصدّع وحصار وفقدان ونظام صارم، وتحديدٌ للأعمار التي يُمكن أن يعيشها الفرد، إضافة إلى نوع الأكل والشرب. هكذا يتحوّل العالَم إلى جحيم مؤقّت.
صَبْغُ الفيلم بالرومانسية أعطاه بُعداً إنسانياً طاغياً، فمُنح سلاسةً واضحة في سرد أحداثه رغم طول مدّته (110 دقائق)، ما سَهّل عملية التلقّي، خاصة بعد فهم أسباب ردود فعل نورا وقرارها ترك العالم الصناعي. وأيضاً فهمُ سبب تمسّك ستيفان بها، عند مروره بكلّ تلك المطبات التي كانت مستحيلة، لإنقاذها وإعادتها إلى الحياة، التي (الإعادة) طريقة احتجاجية إزاء "الآلة الكبرى" و"النظام" القاسي الذي يُسيّرهم، وليست طريقة لإعادة نورا فقط. هكذا، تحوّل الجانب الرومانسي إلى آلية مقاومة وضعهم الراهن، وحياتهم البائسة التي وصلوا إليها.
كما نَفَث تيبور بانوتسكي وسارولتا زابو روحاً إنسانية في بطليهما، رغم استخدامهما التحريك، بجعل الانفعالات البشرية إزاء الأحداث والحوارات تنعكس على ملامح الوجوه، وهذا منطلق ساهم مساهمة أساسية في خلق تعاطف وتراص واضحين بين المتلقّي والفيلم.
رغم تمييع صفة الخيال العلمي في أفلامٍ كثيرة، لافتقارها إلى معطيات علمية تسندها وتؤثّث خيالها، خرج "سماء بلاستيكية" من هذه الدائرة، ونال تصنيفه الفني بكلّ جدارة، انطلاقاً من موجوداته وفضاءاته، المنعكسة في عمران المدينة الصناعية، وشوارعها المزيّنة بأشجار ضوئية، وسياراتها السريعة المختلفة شكلاً وعملاً، وسمائها البلاستيكية ومعالمها. من جانب آخر، أوجد تفاسير علمية واضحة عن مسبّبات الكوارث، وهذه محاولة لفهم كيفية حدوثها ودواعيها. إنّها معطيات مهمّة وواضحة، ساعدت في توليد خيال الفيلم وعلميّته، خاصة بعد مزجها بالموجودات البصرية والتصاميم.
"سماء بلاستيكية" فيلم سينمائي جيد، أطلق إنذاراً إنْ لم يُحافَظ على المنطلقات البيئية للكون، بالقول إنّ هذا سيحدث: أناسٌ منتقون بعناية فائقة، ونظام صارم، وعمر لا يمكن تجاوزه، وبيئة محصورة، فيصبح الجميع آلاتٍ لا بشراً. هذا يُمكن أنْ يحصل في أيّ لحظة، ليس بعد 100 سنة، بل قبل هذا التاريخ، فهناك مشكلات بيئية كثيرة وكوارث وحروب، ومنها إمكانية اندلاع حرب نووية. لذا، وجب الحذر، والحذر مغزى عميق للفيلم.