سعفة "كانّ" لـ"مثلث الحزن": سخرية سينمائية موجعة ومُقلقة

01 يونيو 2022
"مثلث الحزن": ذكاء سينمائي في كشف الأثرياء والسخرية منهم (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

 

بفوزه بجائزة "السعفة الذهبية"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، عن "مثلث الحزن"، ينضمّ السويدي روبن أوستلوند (1974)، إلى 9 مخرجين آخرين فاز كلّ واحدٍ منهم بالسعفة نفسها مرّتين. أوستلوند ـ الذي كشف بلطفٍ عن الأنانية البشرية والنفاق، وتحديداً عن عيوب الأب، والخلل الوظيفي في العائلة، في رحلة تزلّج، في فيلم الدراما الأسرية القاسية "قوّة قاهرة" (2014) ـ انتقل إلى عالم الفنّ، في "المربع" (2017)، الفائز بأوّل "سعفة ذهبية" له، وفيه نبرة تهكّمية واضحة، تسخر وتفضح الفني والتجاري في عالم الفن المعاصر ونخبته، في استعارة جليّة عن القيمة والمعنى في المجتمعات الأوروبية الحديثة، وفنونها.

في "مثلث الحزن" (2022)، يشنّ أوستلوند هجوماً أشرس، وأكثر سخرية ومرارة، على الأثرياء وأشباههم من ذوي السلطة والجاه والنفوذ. ورغم حدّته الهجائية الثقيلة، المكتوبة بحِرفية شديدة، يفتقر الفيلم إلى قوّة فيلميه السابقين وجدّتهما؛ مع أنّ "مثلث الحزن" أكبر وأكثر طموحاً منهما.

"مثلث الحزن"، الأول لأوستلوند باللغة الإنكليزية، مُمتع للغاية، ومُبهر بصرياً، وقوي سياسياً. السيناريو (أوستلوند) مُضحك وذكي، هدفه الاستفزاز والإهانة، والنيل من غطرسة المال والجمال والقوّة. يُدين، بلا رحمة، قسوة أثرياء العالم وأشباههم، وثقافة الموضة المُبتذلة، وتفاهة وسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، يُطلق العنان للسخرية الاجتماعية، وتشريح الهرمية الاجتماعية المُعوجة، ويُنذر بتغيير هيكلي مقبل للعالم الذي نعرفه. لعلّ هذا الفيلم ما يحتاج إليه العالم الآن، لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، قبل فوات الأوان.

عنوان الفيلم يُشير إلى مُصطلح في عالم الموضة، عن التجعّد العميق الذي يظهر بين الحاجبين، مع الإجهاد والتقدّم في السنّ، ولا يُمكن إصلاحه إلّا بقليل من الـ"بوتوكس"، كما في تعليقٍ ساخر في الفيلم، المؤلَّف من 3 فصول، تُشكِّل أضلاع مُثلثٍ. لكلّ فصل إطار خاص، يتقاطع مع الآخَرَين: أحداث الأول تدور في عالم الأزياء وعروضها والـ"موديل"؛ فيه حبيبان شابان، كارل (هاريس ديكنسون)، ويايا (شارلبي دين كريك). يحتوي هذا الجزء على أحد أفضل التسلسلات السينمائية، عن العلاقات المادية الوضيعة والأنانية بين الرجال والنساء، ويناقش الجمال المظهري، لأننا نعيش في عالمٍ المظهر فيه مهمّ للغاية، وأكثر من قبل، خاصة في زمن الصُوَر الرقمية. يُساعد الجمال المظهري على الارتقاء في المجتمع، وإنْ لم يكن للمرء مالٌ أو تعليمٌ، ما يفضح مدى قُبح الجمال الراهن، وتسليعه.

لأنّ يايا تحظى بعدد كبير من المتابعين على "إنستغرام"، حيث السوق الرقميّة الأكبر لتقييم الجمال وتسليعه وبيعه وشرائه، تنال رحلة سياحية فارهة، على متن أحد أكبر اليخوت الباذخة، مكافأة لها. في الرحلة، يبدأ الفصل الثاني، على يختٍ يعجّ بأثرى أثرياء العالم، فيُكرّس فريق العمل فيه، باستثناء القبطان توماس سميث (وودي هارلسون)، جُلّ طاقتهم لتدليل الضيوف، ورعاية نزواتهم وتفاهاتهم. الرحلة البحرية، شديدة السخرية والطرافة والسوداوية، لوحةٌ سافرة عن الامتيازات المجنونة للأثرياء، الذين لا يستطيعون رؤية ما وراء احتياجاتهم، والغارقين في نزقهم وأنانيّتهم.

 

 

في الرحلة، يعرض الأوليغارشيّ الروسي ديمتري (زْلاتْكو بوريتش)، بائع فضلات الحيوانات كأسمدةٍ، شراء اليخت من القبطان الماركسي، الذي يحتقر جميع المدعوّين، ويرفض مُخالطتهم. يدخلان معاً في مبارزة سياسية، لا تُضاهَى في طرافتها، عن الشيوعية والرأسمالية، وتجاوزاتهما؛ بينما تُصرّ زوجة الملياردير الروسي، فيرا (ساني ميلْس)، على أنْ يتخلّى طاقم الضيافة عن مسؤولياتهم، والانضمام إليها للسباحة. هناك أيضاً زوجان عجوزان إنكليزيان (أوليفر فورد ديفيز وأماندا ووكر)، جمعا أموالهما من بيع القنابل اليدوية وأسلحة أخرى، وملياردير التكنولوجيا، السويدي الوحيد والمُحبط (هنْريك دورسِن).

تتعرّض سفينة الحمقى هذه إلى كارثةٍ مُحدقة، مع هبوب عاصفة قوية تجعل اليخت يتمايل، في حفلةٍ ليلية أقامها القبطان. بسبب مأكولاتٍ بحرية، راقية ولزجة، ودوّار البحر، تخرج السوائل الجسدية المُختلفة بدفقاتٍ لا تتوقّف من القيء والإسهال، حتّى تنفجر مراحيض اليخت، باذخة الترف، وتفيض مياه الصرف الصحي، فتلوّث الجميع بالفضلات البشرية الطافحة. تغرق الرحلة في فوضى عارمة، تفوح منها رائحة الدمار والقاذورات، فتُعَذّب الشخصيات المُنغمسة في ذواتها، وينتهي الأمر ببعض الركّاب في جزيرة مجهولة، بعد غرق اليخت.

في الجزيرة، يبدأ الفصل الثالث، الأضعف في الفيلم. لا جديد يُرى، ولا جديد يفعله أوستلوند، يُخالف به المُعتاد والمتوقّع. سريعاً، يُدرك الناجون أنْ لا أحد بينهم لديه المهارات اللازمة للبقاء في البرية، ولو لأيام قليلة. يصل قارب نجاة، به الفيليبّينية أبيغل (دولّي دو ليون)، عاملة المراحيض في اليخت، التي تُتقن الطبخ واصطياد السمك، ما يجعلها زعيمة مجتمعهم المؤقّت الجديد، الذي لا تُفيد فيه ساعات الـ"رولكس" والحُلي، ولا تُنقذ فيه المليارات الكثيرة أصحابَها من الجوع والعطش.

ليس لهؤلاء المنبوذين شيءٌ مُفيد لتقديمه، باستثناء كارل الوسيم، الذي يخضع لنظام المقايضة: الطعام والمأوى والراحة مقابل تقديم الخدمات الجنسية لأبيغل. قبل ساعات قليلة، كان كارل يتصفح خاتم خطوبة، ثمنه 25 ألف دولار، ليُقدّمه إلى حبيبته يايا. أمرٌ مُضحك، لكنّه قاسٍ. معظم المواقف تمضي على هذا النحو.

في "مثلث الحزن"، لا يهتمّ روبن أوستلوند بتخريب النظام الاجتماعي، بقدر رصده الواقع الكائن، والتنبؤ بالمقبل. إجمالاً، يُضحك الفيلم بشدّة وصدق، في قلب المأساة. ويدفع إلى التفكير بعمقٍ ونضج، وإلى الخشية مما يُحذِّر منه.

المساهمون