يُمعن زكريا جابر، في "قلقٌ في بيروت" (2023، 93 دقيقة)، في توثيق لحظات يعتبرها أساسية في سيرة ذاتية، كما في حكاية بلدٍ واجتماع وعيش وعلاقات. يُوازن بين الشخصي/الذاتي والعام. يستعيد أول تصوير بصري له مع والده، الشاعر والمسرحيّ يحيى جابر (مطلع تسعينيات القرن الـ20)، ويبلغ راهناً لبنانياً يعاني أزمة اقتصادية (عشية "انتفاضة 17 أكتوبر" اللبنانية، 2019)، وتفشي كورونا (بدءاً من منتصف مارس/آذار 2020)، والتفجير المزدوج في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). يمنح الانتفاضة حيّزاً أكبر من غيره، فهو يُشارك فيها، بتصويره حراك صديقات وأصدقاء له، وبمعاينته قمعاً أمنياً ومليشياوياً، وبالتقاط حماسة شبابية تتحوّل إلى خيبةٍ وقهرٍ وخرابٍ في النفس والروح، وبحوار مع أبٍ يُقيم عنده زمن كورونا، ومع أمٍ (الرسّامة سهى صبّاغ) بعد قطيعةٍ بينهما لـ8 أعوام، ينسى (أو ربما يتناسى) سببها.
يصعب اختزال مضمونٍ، يتوسّع زكريا جابر في سرد حكاياته ومسائله وتفاصيله. يُطيل مدّة فيلمه، كمن يرغب في قول كلّ ما يعتمل فيه من مشاعر وتفكير وتأمّل، وتصفية حسابات (!). إطالةٌ يُمكن تفاديها، فصُور الانتفاضة كثيرة، وبعضها معروفٌ، والاكتفاء بمعاينة تحوّلات صديقاته وأصدقائه فيها ومعها أفضل وأعمق، لما يقوله هؤلاء ويبوحون به ويتصرّفون على أساسه.
الجانب العائلي يتوازن مع العام، والعناوين الكثيرة مُتعبةٌ في فيلمٍ صادق وحقيقي، وربما لأنّه صادق وحقيقي يطرح جابر عناوين كثيرة فيه. الحميمي حاضرٌ في علاقته بوالديه وصديقاته/أصدقائه، وفي التوقّف قليلاً عند رحيل الناشر رياض نجيب الريّس، الذي يعتبره جدّاً له. الحميميّ حاضرٌ أيضاً في تمكّنه من التقاط انعكاس المسار اللبناني، في الأعوام الـ3 تلك تحديداً، على شابات وشبّان، مساوياً إياه (الانعكاس) مع تأثيرات المسار نفسه على جيلٍ أكبر، سيكون الوالد نموذجه.
"الفقر يزداد، واليخت يكبر". "في هذا البلد، هناك خياران: إما الطائرة وإما التابوت". جملتان تختزلان بلداً وناسه، لكنّهما غير كافيتين لاختزال "قلقٌ في بيروت" (المُصوَّر في بيروت بين عامي 2019 و2022)، لما فيه من تفاصيل يُمكن تشذيب بعضها بحذف لقطات تكاد تتاشبه في مضمونها (صُور الانتفاضة مثلاً، خاصة الموثّقة والمتداولة كثيراً). جملتان تشيران إلى حالة لبنانية منفلشةٍ على 3 مصائب متتالية، ستتعامل معها صديقات جابر وأصدقاؤه بحماسة في المواجهة، وبقهر وألمٍ بعد حين، لشدّة الهزيمة والانهيار. والأجمل متمثّل باعتماد بعض هؤلاء على السخرية المريرة في مواقف لاحقة إزاء أحوال بلدٍ يزداد انهياراً، وهجرةٍ معلّقة، فالعالم مغلقٌ بسبب كورونا، وانتظار فتح الأبواب للخروج من جحيمٍ وموت قاسٍ بدوره.
مسألة جواز السفر (عجزٌ في إصداره بسبب الأزمة الاقتصادية، كما يُقال حينها) تُعتبر مأزقاً أساسياً، يرتبط بخيبة وقهر ورغبة معطّلة في الخروج من شرنقة الاختناق والألم والانكسار. لكنّ المسألة غائبةٌ عن "قلقٌ في بيروت" (سيناريو وكتابة: زكريا جابر وعمر لَيزا وجمانة سعادة، منتجته الأساسية)، رغم أهميتها. مع هذا، ينفلش فيلم زكريا جابر على مسائل عدّة، ينبثق الأجمل والأعمق فيها من ذاته وروحه وحساسيته وانفعاله وانغماسه في تسجيل حالتين: صديقاته/أصدقاؤه، وعائلته (الأب خاصة). هذان الأجمل والأعمق يرتبط أحدهما بالآخر عبر أحوال بلدٍ، يعود زكريا جابر إلى فصول من تاريخه القريب، منتقداً والده المتحوّل من الحزب الشيوعي اللبناني إلى رفيق الحريري، بعد اغتياله (14 فبراير/شباط 2005) تحديداً.
انتقادٌ يمرّ سريعاً، رغم أهمية ما يُمكن أن يحتويه نقاشٌ بين زكريا ويحيى، يتناول الذاتي/الشخصي والعام معاً. فالخيبة والقهر والألم تجمع كلّها جيلين لبنانيين أو أكثر، في أعوامٍ كثيرة، بعضها لاحقٌ للنهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وبعضها الآخر متأتٍ من خراب الأعوام الـ3 الأخيرة. لكنّ الاختلاف في تعبير الجيلين عن الخيبة والقهر والألم كامنٌ في أنّ الشباب ساخرون رغم ضحكاتٍ، واضحٌ أنّها نابعةٌ من ذات خائبة ومقهورة ومتألمة. السخرية بارعةٌ في وصف حالةٍ وشعور وحركة.
"قلقٌ في بيروت"، المشارك في الدورة الـ18 (27 إبريل/نيسان ـ 7 مايو/أيار 2023) لمهرجان "شاشات الواقع" في بيروت (تنظيم "جمعية متروبوليس سينما"، بمشاركة "الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون")، شهادةٌ بصرية توثّق حالة وزمناً وإحساساً وتفكيراً. هذا غير حائل دون تنبّه إلى تواضع اشتغاله البصري، إذ لا ابتكارات فنية ولا اقتراحات جمالية خارج المفردات التقليدية لفيلمٍ وثائقي، يمتلك شرطه التلفزيوني، مُتقن الصُنعة (إنتاج مشترك بين "الجزيرة الإنكليزية" و"الجزيرة الوثائقية" و"15 L للأفلام"). حركة الكاميرا (تصوير: زكريا جابر وأحمد الطرابلسي. تصوير جوّي: علي غادر) غير ثابتةٍ عامةً، كأنّها تتحرّر من كلّ قيد، من دون أنْ تفقد تمكّنها من إثارة انتباهٍ وإحساس ومتابعة.
إنْ يكن "قلقٌ في بيروت" سينمائياً أم لا، يبقى شهادة بصرية عن أفرادٍ يُقيمون في بلدٍ، رغم مصائبه وانهياراته، وغالبية أناس البلد غير بريئةٍ من خرابه.