توحي الدائرة التي يضع فيها المخرج السويدي بيتر بونتيكيس (1976) شخصيته الرئيسية، الصبي عبد الرحمن، بأنّها دوامة أكثر منها "دائرة شرّ". من يدخل فيها لا يخرج منها سالماً. تسحبه زوابعها إلى الأسفل، فيغيب في متاهاتها. لا يدخلها بالضرورة الأشرار وحدهم، بل تدفع ظروفٌ غيرهم إلى الاقتراب من حافاتها، وربما السقوط فيها.
إنّها قصّة عبدول (12 عاماً)، كما يسمّيه أصدقاؤه في منطقة "يارفا" (ضواحي استوكهولم). في دواخله، حصانة فطرية، تنفِّره من الولوج إلى الدروب المؤدّية إليها. مع ذلك، يتورّط في نشاط عصابات يتزعّمها مهاجرون يتجارون بالمخدّرات، ويتّخذون من الأطفال أدوات لترويجها. اقترب، من دون رغبته، من تخوم الهاوية.
من هذا التصوّر المتخيّل لبطله، يقارب "رصاص" (2023) مشهداً سويدياً، لشدّة التصاقه بالواقع، يبدو كأنّ كاتبه (المخرج نفسه) يوثّقه بسرد روائي. توثيق أحوال عيش سكان ضواحي المدن السويدية، المحشوّة بالمهاجرين، ليس جديداً. الجديد يكمن في دقّة توصيفه، وتقارب تجسيده مع اللحظة الراهنة التي تعيش فيها تلك المناطق حالة عصيبة، لم تألفها من قبل.
صراع عصابات مسلّحة ومفتوحة في الشوارع، ومصادمات مع رجال الشرطة. تجارة أسلحة ومخدّرات يتورّط أطفال فيها، يخدعونهم ويجبرونهم على دخول عالمها. كلّ هذا جَمعه "رصاص" وأطلقه على شكل صرخة متوجّعة من واقع معيش، يثير نقله على الشاشة، بجماليات وعمق رؤية، الإعجاب والاندهاش من قدرة السينمائي الموهوب على معرفة تفاصيل المادة التي يبحث فيها، والتي تبدو، لشدّة دقّتها، كأنّه عاشها بنفسه.
بمهارةٍ، يُركِّب بونتيكيس الظروف الموصلة إلى الحالة الآنية المعيشة. مناطق سكنية مغلقة، كأنّها تعيش لوحدها، منفصلة عن العالم السويدي المحيط بها. هذا يُسهّل عزلةً تقبل أفكاراً تُبرّرها، وتُجيز الخروج عن المحيط الحاضن لها. المشهد الأول يختصرها: أولاد صغار يتربّصون بسيارة شرطة، ما إنْ تمرّ تحت الجسر، الذي اتّخذوا مواقعهم عليه، حتى يرموا الحجارة عليها.
لا يحاكم "رصاص" العلاقة المتوتّرة بين الطرفين: المهاجر والسلطة. لكنّه يروّضها لصالح ما يريد الذهاب إليه: عالم عبدول، ابن العائلة العربية المهاجرة، التي هربت من الحرب، ووجدت نفسها تخوض صراعاً داخلياً بعيداً عنها. غادرها الأب إلى بلدٍ آخر، وظلّت الأم (هيلين الجنابي) وحيدة، وعاجزة عن مواجهةِ خارجٍ قاسٍ، تخاف منه على أولادها.
عبدول (أداء رائع للطفل توماس سمير) يحلم في أنْ يصبح بيطرياً، رغم سخرية زملائه منه ومن اهتمامه بخنزير الحقل المجاور لمدرسته. علاقته بالخنزير تعبيرٌ مبطّن عن رغبة في الهروب من الواقع، الذي لا يريد التورّط فيه. يُشجّعه على ذلك معلّمه علي (كاردو رزازي). يجعل "رصاص" العلاقة بين الصبي والخنزير طرفاً أولَ في معادلة، طرفها الآخر الواقع الذي يعيشه ويفرض نفسه عليه، ويجرّه إلى ما لا يحبّ، ويورّطه في عالم الجريمة والمخدرات.
ضيق المساحة، الممنوحة إلى الطرف الأول من المعادلة الملتبسة والرامزة إلى رغبة في عيش سوي، تترك أثرها العميق في نصّ مشحون بتوتّرات الطرف الثاني وعنفه. لا تنفكّ رموزه. شبان متهوّرون ومتورّطون في جرائم وصراعات في ما بينهم، ومحاولاتهم كسر عناد الطفل، وتحاشيه الاقتراب منهم.
لا يُخفي بونتيكيس تأثّره بصبي كِن لوتش (1936) في Kes (إنتاج 1969). ذَكَر في مقابلات صحافية تقارب فكرة حبّ عبدول للخنزير بحبّ الصبي البريطاني بيلي كاسبر، ابن العائلة العمالية، صقراً برّياً. لوتش اعتنى بنقل واقع عمّال المناجم، وقسوة الظروف التي يعملون فيها، وفسّر قسوتهم المتأتية منها على أنفسهم وأطفالهم. المدرسة عنده مادة بحثٍ نقدي. في "رصاص" أيضاً، أخذت ذات المنحى، والنهايات مؤلمة في الفيلمين. في مُنجز البريطاني، يقتل أخ بيلي الصقر انتقاماً. وفي "رصاص"، تقتل العصابات حلم عبدول في أنْ يصبح طبيباً بيطرياً، يعتني بالحيوانات، وأوّلها خنزيره.
المشهد النهائي يوجز مسار سرد سينمائي، تتشكّل تفاصيله الدرامية من حيوات تقيم في المكان المعزول، فتتأثّر بعزلته. ولأنّها منتقلة إليه من مكان آخر، تحمل معها بقايا سوء ذلك المكان. دقّة رسم الشخصيات، وتجسيدها بتمثيل جيد، ينقل مستوى الاشتغال السينمائي من عاديّته إلى الاستثنائي في محصلته. معاينته الثاقبة للظرف الذي تعيش فيه، وتجسيده الفواجع التي توصم نهايات أبطالها، يُبطّن تعاطفاً معها، يقاربه، ويجد له عذراً في سؤال احتجاجي لا يبارح الذهن: هل السقوط في دوامة الشرّ مصير محتوم على كل مْن دخل مدن المهاجرين؟