رحيل زكي فطين عبد الوهاب... التمثيل غالب فالإخراج مؤجَّل كثيراً

22 مارس 2022
توفي يوم الأحد عن 61 عاماً (فيسبوك)
+ الخط -

أشياء كثيرة يُثير رحيلُ زكي فطين عبد الوهاب (1961 ـ 2022) مقاربتَها بأشكالٍ مختلفة: ابن عائلة فنية (المخرج السينمائي فطين عبد الوهاب، والمغنية ليلى مراد، والخال منير مراد، الملحن والمغنّي). زوجٌ مؤقّت لسعاد حسني (6 أشهر فقط، كما يُقال، في مرحلة شبابه الطالبيّ). مهووسٌ بالسينما. راغبٌ في الإخراج، محترفٌ في التمثيل، طامحٌ إلى فعلٍ سينمائي يُشارك في تجديد الصورة، وتحريض المخيّلة على ابتكار أدوات اشتغال ومعاينة وتفكيك. صدمة تلو أخرى، مهنياً أحياناً، وصحّياً في الآونة الأخيرة. صريحٌ في اعترافات شخصية عن مرضٍ وعلاجٍ وانفضاض عاملين/ عاملات في المهنة عنه، وعجزه عن العمل، فالجسد مُتعب، وفيروس كورونا متفشّ، ومصر تتغيّر إلى الأسوأ، والعالم مخنوق.
هذا كلّه مزيجُ وقائع واعترافات بشيءٍ من التمرين على اكتشاف المخبّأ في مسام المُعتَرَف به. صراعه مع مرضٍ سرطانيّ يكاد لا يختلف عن صراعه من أجل اشتغال إخراجيّ، يريده فسحة تأمّل واقتراب من نبض حياةٍ واجتماعٍ وعلاقاتٍ وأفراد. تحدّيات المهنة، معطوفة على التزامات ثقافية وفنية وفكرية وأخلاقية، تحول دون استمراره في الإخراج، فينصرف إلى تمثيلٍ، لعلّه (زكي عبد الوهاب) "يخضع" له لإظهار بعض ما في ذاته وروحه ووعيه ومعرفته من جمالياتٍ وأقوالٍ.
أبناء مشاهير سينمائيين وبناتهم/ بناتهنّ يعترفون بأنْ ثقل نجومية الأهل غير مُحتَمل، فالأبناء والبنات يبتعدون عن المهنة، ونجومية الأهل تُطاردهم/ تطاردهنّ في يوميات عيشٍ وحياة. هذا غير منطبق على زكي عبد الوهاب، فاختياره السينما مهنةً، وعيشاً وحياة، منبعثٌ من شغفٍ تُبيّنه أدوارٌ وشخصيات سينمائية وتلفزيونية، يؤدّيها ببراعة المتعطّش إلى إعلان شغفه هذا، وإنْ عبر التمثيل. صعوبات تواجهه في الإخراج، فيكتفي بفيلم "رومانتيكا" (1996)، وبكونه مساعد مخرج ليوسف شاهين في "اليوم السادس" (1986)، ولعلي بدرخان في "أهل القمّة" (1981) مثلاً. انخراطه في مرحلة سينمائية مصرية، تعكس محاولات جمّة لبعثِ انشغالٍ سينمائي يختلف عن سابقها، يجد (الانخراط) مدى آخر في مواكبته مرحلة سينمائية لاحقة على تلك، تتمثّل بجيلٍ يبحث، عبر الصورة، في أحوال بيئات صغيرة وأفرادٍ محدّدين وهمومٍ "متواضعة"، تكون (الأحوال) انفتاحاً على أفقٍ أوسع في السياسة والاجتماع والعيش والعلاقات، كما في الذاكرة والمفاصل التاريخية والمفردات الحياتية.

لندرة اشتغالاته في الإخراج أسبابٌ عدّة، أبرزها المزاج

أميلُ إلى قولٍ شخصي، يرى في زكي عبد الوهاب، وفي آخرين قلائل، معنى لثنائية يتناقض/ يتصادم أحد طرفيها مع الآخر: شغفٌ بالسينما، وصعوبة، أشبه باستحالة مُعلّقة، في اشتغالٍ يخرج من أعماق قلبٍ وروحٍ وعقلٍ إلى عوالم تُحيط بالقلب والروح والعقل، في أزمنةٍ يكمن عنوانها في تبدّلات غير واضحة المعالم لكنّها مرغوبٌ فيها، وفي أوهامٍ ملتبسة لكنّها جميلة، وفي رغبات معطّلة لكنّها صادقة، وفي هوسٍ معطوب بالسينما لكنّه بديع وأنيس. هذا غير سلبيّ، بل محاولة لفهم معنى أنْ يعجز سينمائيٌّ كزكي عبد الوهاب عن اشتغالٍ (في الإخراج تحديداً) يراه حياةً، في بلدٍ يشهد، منذ "ثورة 23 يوليو" (تموز ـ 1952) على الأقلّ، سلسلة انقلابات وانحرافات وصعوبات وإحباطات وخيبات، وآمالٍ أيضاً، إلى محاولات فردية دؤوبة للخروج من واقعٍ، بحثاً عنه وفيه، وعن واقعٍ آخر وفيه؛ أو لطرح أسئلةٍ غير منتهية في أفلامٍ (وأعمالٍ مختلفة) تُفكِّك واقعاً وراهناً وتاريخاً. محاولات تبغي إجاباتٍ، لن تكون محسومة ونهائية.
لندرة اشتغالاته في الإخراج أسبابٌ عدّة، أبرزها المزاج، كما تكتب منى غندور (العاملة في الصناعة السينمائية، في مصر تحديداً، لأعوام طويلة، ولها سلسلة حلقات بعنوان "شاهين ليه"، 2009)، التي تنقل عنه اعترافه لها بهذا (فيسبوك، 20 مارس/ آذار 2022). تقول إنّ يُسري نصرالله متمكّن من أخذ أفضل ما فيه كممثل، لاشتغالهما معاً "بمزاج". هذا يدعو إلى مزيدٍ من تفكيرٍ وتأمّل. المزاج أساسيّ. لكنّ القلق حاضرٌ أيضاً، إزاء تساؤلات جمّة، في الذات والعام. المزاج جزءٌ من حياة، كالقلق والأرق. هذه حالات تحرِّض على اشتغالٍ، لكنّها تحول دون اشتغالٍ أحياناً لشدّة حضورها في ذاتٍ وروحٍ وعقلٍ. حسم المسألة مستحيل، لارتباطها بأفرادٍ يعيشون انفعالاتٍ متناقضة، ويمضون أعمارهم بحثاً عن منافذ وإجابات، لعلّهم يحصلون على بعضها، لكنّهم يرحلون قبل بلوغ الكثير منّها. المزاج فعلٌ إبداعي، كالقلق والأرق. كالكسل أيضاً.
هذا لن يُغيِّب أسباباً أخرى، كصعوبة الحصول على تمويلٍ لمشاريع غير قادرة على إقناع الجهات الإنتاجية بها، لاختلاف بين الطرفين حول ما تطرحه تلك المشاريع. هذا حاصلٌ. الجانب الاقتصادي/ الصناعي في السينما أساسيّ أيضاً، ويحول أحياناً دون إنجاز المرغوب فيه، وفقاً لـ"مزاج" المخرج/ المؤلّف، ولقلقه وأرقه مثلاً.
من "سرقات صيفية" (1988) ليُسري نصرالله، الذي سيتعاون معه في "مرسيدس" (1993) و"المدينة" (2000)، إلى "بحبّ السيما" (2004) لأسامة فوزي (وما بعده أيضاً)، يُمثِّل زكي عبد الوهاب في أفلامٍ، بعضها يجنح إلى إعادة التفكير مليّاً في معنى اختراق التقليد السينمائي، لابتكار نمطٍ تجديديّ في طرح الأسئلة، ومقاربة المسائل، ومحاولة فهم حالةٍ أو لحظةٍ أو بيئة أو عيشٍ أو انفعالٍ، عبر لغة الفنّ السابع. مع يوسف شاهين، يُمكن القول إنّه تأسيسٌ لتلك المحاولات، وإحدى البدايات القليلة التي تصبو إلى جعل التغيير ثقافة وعيشاً ووعياً. أعمالٌ سينمائية وتلفزيونية تُشغِله، ولو قليلاً، عن هاجسه الأساسي، لكنّها تمنحه، في الوقت نفسه، حيّزاً لإشهار شيءٍ ذاتيّ، يُريده (الإشهار) مرآة يقول عمقُها إنّ التمثيل ركنٌ وتمرين، وإنّ في الاشتغال حِرفة ومهنيّة، وإنّ اللاحق (الإخراج المؤجّل) مطلوبٌ ومُلاحقٌ، رغم كلّ شيءٍ.

هذا كلّه تحليلٌ يُسقِط على زكي عبد الوهاب قراءات شخصية، لعلّه غير موافق عليها، أو غير معنيّ بها. لن أُمعن في إسقاطٍ كهذا. أكتبُ ما أشعر به، وما أراه في تلك السيرة المعروفة. "رومنتيكا"، فيلمه كمخرج، يتوغّل في أحشاء حالةٍ متداولة في أنحاء العالم، متّخذاً من بيئته المصرية نموذجاً، يعكس بعض المحليّ في معاينة أمزجةٍ وانفعالاتٍ واجتماعٍ وسلوكٍ وتصرّفات. لكنّه يقول أساساً إنّ التجريب ممكنٌ، والواقع ثريٌ بما يكفي لخوض اختبارات التنقيب في جذور ومشاعر ووقائع. فيلمه هذا انعكاسٌ لشيءٍ من سيرته مع السينما، فحسن (ممدوح عبد العليم) يريد إنجاز فيلمٍ عن شبابٍ يُصاحبون سياحاً أجانب، ويُقدّمون لهم خدمات مدفوعة. لكنْ حسن غير متمكّن من تحقيق ما يصبو إليه، لانخراطه في عالمٍ قاسٍ ومعقّد، ومليءٍ بأسئلةٍ والتباسات.

تمثيله في أفلام يُسري نصرالله، مثلاً، دليلٌ على طموحٍ، يذهب به إلى تجريبٍ كهذا في تفكيك ذاكرة وراهن وتفاصيل وذكريات وذاتٍ وبوحٍ، وإنْ عبر اكتفائه بتمثيلٍ، لعلّ فيه شيئاً أو أكثر من صديقه يُسري.
غياب زكي فطين عبد الوهاب يُثير تساؤلات كهذه. طرحُها الآن دعوةٌ إلى نقاشٍ مفتوح على الذات والعام، كما على الراهن والذاكرة.

المساهمون