"راديو بروباغندا"... صوت إسرائيل الذي اخترق العرب

31 مايو 2023
الملصق الخاص بالفيلم (فيسبوك)
+ الخط -

"لم تكن مجرد إذاعة بريئة تبث الأغاني والأخبار، بل واحدة من أكبر أدوات الاستخبارات الإسرائيلية التي اخترقت العالم العربي بأصوات يهودية تقمّصت شخصيات عربية وأسماء مثل داود الناطور وابن الرافدين، وبثت شيفرات لعملاء إسرائيل عبر البرامج والأغاني، لتفعيل وتوجيه عناصر الاستخبارات المنتشرين في كل مكان". هذه خلاصة الفيلم الوثائقي الإسرائيلي "راديو بروباغندا" Radio Propaganda، للمخرج عوفر بنحاسوف، والذي يتناول حكاية راديو "صوت إسرائيل باللغة العربية" Beit Shidir.

عرض هذا الفيلم ضمن مهرجان تل أبيب للأفلام الوثائقية (دوكافيف) الذي نُظم بين 11 و20 مايو/ أيار الحالي. فيلم مثير يتناول قصة الراديو الذي أنشئ عام 1948 ودوره الدعائي والاستخباراتي في خدمة الاحتلال الإسرائيلي. يروي الفيلم الذي استعرضت صحيفة معاريف بعض تفاصيله، من خلال تقرير عن مُخرجه عوفر بنحاسوف والباحث دودي بطيمر، تفاصيل مثيرة حول الإذاعة التي أقيمت لأهداف استخباراتية ولاختراق العالم العربي وشن حرب نفسية عليه، كما يستعرض حكاية أحد المذيعين الذي خاطب المستمعين بلغة بسيطة، "في الوقت الذي كانت الإذاعات العربية تبث بلغة معقّدة لا يقوى البسطاء على فهمها". ووفقاً لـ"معاريف"، بثت الإذاعة الأخبار والأغاني باللغة العربية، ولكن الاحتلال الإسرائيلي كان يستخدمها لتغيير الرأي العام في الدول العربية، وتجنيد عملاء، وتشغيلهم من خلال شيفرات زرعت في البرامج.

كان إلياهو ناوي، أحد مذيعي المحطة في سنواتها الأولى، وأصبح لاحقاً رئيساً لبلدية بئر السبع في الأعوام 1963-1986. في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، عمل ناوي، عبر أثير المحطة، مذيعاً ومحللاً للأحداث والتطورات باللغة العربية تحت اسم "داود الناطور". وقال بنحاسوف لـ"معاريف": "قابلت بروريا، أرملة ناوي، بعد احتفالها بعيد ميلادها السادس والتسعين، وتحدثت بذهن صافٍ. بعد أسبوعين من اللقاء، تُوفيت. بأعجوبة، تمكنا من إجراء مقابلة معها لمدة أربع ساعات، وفوجِئت بأنني أول من يجري مقابلة معها. تحدثت بصراحة عن شخصية داود الناطور ودوره".

أنشئت الإذاعة لأهداف استخباراتية ولاختراق العالم العربي وشن حرب نفسية عليه

ولد ناوي في البصرة العراقية عام 1920، وهاجر إلى فلسطين المحتلة حين كان في السادسة، وتوفي عام 2012 عن عمر 92 عاماً. أفاد الفيلم بأن ناوي نشأ في القدس، وبعد أن أنهى دراسته، بدأ بالعمل موظفاً في وكالة لتجارة قطع غيار السيارات، وفي الوقت نفسه درس في المدرسة العليا للقانون والاقتصاد. في ذلك الوقت كان أيضاً عضواً في منظمة هشومريم (الحرّاس). وعام 1947، تزوج من بروريا. قالت بروريا في حديثها أثناء تصوير الفيلم: "عاش إلياهو في القدس في حي عربي مختلط. عام 1936، بدأ بث إذاعة The Palestine Broadcasting وجلس جميع السكان، عرب ويهود حول المذياع، لكنهم لم يفهموا شيئاً (...) كان الجميع يلتفتون إلى إلياهو الذي يجيد اللغة العربية، ليشرح لهم ما يقوله المذيعون". وأضافت: "عام 1947 توجه الصحافي وعضو الكنيست الإسرائيلي الراحل أوري أفنيري إلى ناوي، وأخبره بأنه عشية إقامة الدولة والجيش، لا بد من التفكير في الحرب النفسية.

ورأى إلياهو أنه من الضروري التحدث إلى العرب بلغة بسيطة وليست أدبية، كما كان سائداً، وهكذا انضم فعلياً إلى الراديو الذي كان بملكية منظمة الهاغاناه الصهيونية. في الواقع، كان إلياهو المذيع الأول والوحيد الذي تحدث باللغة العربية المحكية، الأمر الذي لم يتوفّر في إذاعة القاهرة ولا إذاعة بيروت وإذاعة هنا القدس". تبنى ناوي الاسم الحركي "داود الناطور" (ديفيد الحارس)، مما زاد من الغموض في محيطه، وهنا قالت بروريا: "كانوا متأكدين من أنه عربي حقيقي. رغم أنه كان في الثلاثينيات من عمره، فقد غيّر صوته ليعتقدوا أنه شخص يبلغ من العمر 60 عاماً، حتى يظنوا أنه رجل كبير في السن وصاحب خبرة. في البداية، جرى البث من مواقع مختلفة في جميع أنحاء البلاد وفي سرية تامة. لم أكن أعرف مكان محطة البث، ولم أسأل أيضاً. تنقّلت المحطة من مكان إلى آخر، وكان البريطانيون يبحثون عنه أيضاً. أنا شخصياً كنت أرتجف في كل مرة يذهب فيها للبث. بعد قيام الدولة (الاحتلال)، بدأ بالبث في استوديوهات صوت إسرائيل بالعربية في تل أبيب".

في حديث بنحاسوف الذي نقلته صحيفة معاريف، قال: "لم أكن أعرف حتى بوجود مثل هذه القصة. لم أكن أعرف إن كان هناك راديو إسرائيلي، وكان الأشخاص يذهبون للعمل فيه متنكّرين. كان داود الناطور معروفاً كمعلّق عربي، بدوي وقروي، تربطه علاقات طيبة باليهود. كان يخرج على الهواء ويقول (لإخوته) الأردنيين والمصريين: أنا أعرف اليهود. ماذا تريدون منهم؟ دعونا نعيش معهم بسلام وستكون أموركم جيّدة. أنا سعيد". وعقبت بروريا: "كان العرب يستمعون إليه بلهفة، وكان نجمهم الإذاعي الكبير. في المقابل، كان أداة لدولة إسرائيل، وقد استخدمته (الاستخبارات) لتلبية احتياجاتها. فاز بقلوب الفلاحين الذين شكّلوا غالبية مستمعيه. لقد عاش إلياهو حياة مزدوجة (...) عمل في مناصب مختلفة، من ضمنها تأسيس الوحدة الدرزية والبدوية في الجيش الإسرائيلي، وأسس صحيفة عربية. وفي أحد الأيام ومن دون مقدّمات جلس أمام الميكروفون، خلع زيه الرسمي وتحدث إلى العرب القرويين. إلياهو، المدني البسيط، أصبح داود الناطور".

اكتسبت شخصية داود الناطور شعبية هائلة في الدول العربية

وشرح بنحاسوف قائلاً: "اكتسبت شخصية داود الناطور شعبية هائلة في الدول العربية، لدرجة أن حياته كانت مهددة في وقت من الأوقات. بين الحين والآخر كانت هناك شائعات بأنه قُبض عليه، وكانت الصحف اللبنانية تبتهج بالقبض على الخائن. من جهة، أراد قادة الدول العربية القضاء عليه وإسكاته، ومن جهة أخرى، كان لديه العديد من المعجبين من الشعب العربي، بما في ذلك في فلسطين ولبنان ومصر وسورية". حول أساليب عمله، قالت بروريا: "كان موظفو الموساد يسلمون رسالة مكتوبة إلى إلياهو، وكان عليه دائماً أن يكون لديه مواد جاهزة يمكنه استغلالها في بث يمتد من 30-40 دقيقة. كان يحصل على مواد من الموساد وهيئات أخرى، ويمررها خلال البث. تقمص شخصية. أراد العرب قتله، وزعماء الدول العربية وضعوا مكافأة على رأسه. كان مطلوباً لأنه تمتع بنفوذ هائل ضد المؤسسة العربية. لكنه لم يكن خائفاً، ولم أكن خائفة".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وأشار المخرج الإسرائيلي إلى أنه "في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1957، شارك ناوي في آخر بث له. كان يفتخر بأنه يتوجه إلى أسواق مختلفة، مثل سوق غزة أو نابلس، وكانوا يتعرفون عليه من خلال صوته، صوت داود الناطور. لكنه كان يضحك وينفي ذلك، إلى أن تولى رئاسة بلدية بئر السبع، وتوقف عن إخفاء الحقيقة". وأفاد تقرير "معاريف" بأنه عام 1958، بسبب تعيين ناوي قاضياً في محكمة الصلح، وهو الأول في بئر السبع والنقب، انتقل للعيش في بئر السبع وشغل هذا المنصب حتى عام 1963. كان هناك مذيعون آخرون إلى جانب ناوي، يبثون عبر أثير المحطة بأسماء مستعارة، بينهم سلمان ديبي الذي حمل لقب "ابن الرافدين"، ومعلق الشؤون العربية شاؤول ميناشيه الذي جرت مقابلته أيضاً من أجل الفيلم ومات قبل صدوره. أجرى صنّاع الفيلم أيضاً مقابلات مع عناصر في الاستخبارات وجهات أخرى، ألقت الضوء على دور القائمين على الإذاعة في العمليات الاستخباراتية والدعاية الإسرائيلية. وقال بنحاسوف: "لا يمكنك أن تصدق أن محطة راديو تفعل مثل هذه الأشياء، من خلال الأغاني والرموز للتواصل مع الجواسيس. إنه أمر لا يصدق على الإطلاق. تكشف الوثائق التي وجدناها أنه حتى السجناء في السجون العراقية والمصرية تلقوا رسائل عبر هذه المحطة الإذاعية، وهذا أمر لا يصدق".

المساهمون