بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" كلّ يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
لسنين عديدة تداول الناس معلومة مفادها بأن الممثلة السينمائية الشهيرة نادية لطفي من عائلة بولندية لجهة الأم. ساهم في قبول الزعم أن بشرتها فاتحة، وأن اسمها الأول ﭘولا Paula، ينتمي إلى التراث المسيحي (مؤنث بول أي بولس). أما بالنسبة إلى البشرة الفاتحة، فثمة مصريات ومصريون يتميّزون بهذه الملامح، وبعضهم من أصول قوقازية أو ألبانية أو بوسنية أو تركية. وأما الاسم الأول فأمر تصديق المتداول بشأنه سهل؛ فليس من الغريب أن تُطلق أسماء عمر وخالد وأسامة ومروان على شباب مسيحيين، لكن ليس من المألوف أن تكون فتاة مسلمة تحمل اسم بولا محمد مصطفى شفيق، وهو الاسم المدوّن في بطاقتها الشخصية. وقد عرفتُ الحقيقة وأنا أتابع مقابلة تلفزيونية أجراها معها أسامة كمال، وفيها أكّدت أن والديها مصريان، وبولا اسمها الصحيح. كانت والدتها توجهت إلى مستشفى تديره راهبات مسيحيات لتلد جنينها، وكانت ولادة نادية متعثّرة، وظلّت الراهبة بولا إلى جوار الوالدة، تساعدها وترفع معنوياتها. وتيمّنا، أطلق أهلها عليها اسم الراهبة الطيّبة.
حين سمعت ذلك تذكّرت الروائي نجيب محفوظ، وهذا اسمه الأول. كانت ولادته صعبة أيضا، وساهمت براعة الطبيب في جعلها ميسّرة. كان الطبيب يدعى نجيب باشا محفوظ، وتقديرا له نقل والده اسمه إلى الوليد فحمل هذا الاسم المُرَكّب. أما البشرة الفاتحة فجعلت بعض المخرجين يسندون إلى نادية لطفي دور الفتاة المسيحية أو "الخواجاية". في فيلم "عمالقة البحار" وهو من أوائل أفلامها، وقد أخرجه السيد بدير، لعبت دور خطيبة جول جمال الضابط البحري السوري المسيحي، الشهيد في حرب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. ثم دور الصليبية لويزا في فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي أخرجه يوسف شاهين. كما أدّت نادية لطفي دور الفتاة اللبنانية المسيحية صوفيا، ضحية الحرب الأهلية (1975) في فيلم "أين تخبئون الشمس" الذي أخرجه المغربي عبد الله المصباحي. ودور الراقصة الشامية المسيحية التي لمعت في مصر، في فيلم "بديعة مصابني" (1975) من إخراج حسن الإمام.
أما بدايتها في التمثيل السينمائي فهي ذات صلة بالصداقة التي ربطت أهلها بالموزع السينمائي جان خوري (زوج أخت يوسف شاهين، وأبو المنتجة والمخرجة ماريان خوري). كانت ترافق أهلها لزيارة عائلة جان خوري، وكان المنتج رمسيس نجيب بين المدعوين. أعجب بجمالها ورشّحها لأن تمثّل دورا في فيلمه القادم "سلطان" الذي صُوّر سنة 1958، وهو من إخراج نيازي مصطفى، وبطولة فريد شوقي ورشدي أباظة وبرلنتي عبد الحميد. في هذا الفيلم اتخذت بولا شفيق اسما فنيّا هو نادية لطفي، وسيلازمها إلى آخر العمر. كان رمسيس نجيب قد عرض عليها اسما آخر لم يعجبها، فاختارت هي اسم نادية لطفي، وهو اسم الشخصية الرئيسية في رواية "لا أنام" لإحسان عبد القدوس، وعندما اقتُبِسَت الرواية في السينما جسدت الشخصية فاتن حمامة، والطريف أنها كانت، وظلّت، المثال الأعلى عند نادية لطفي. وقيل إن إحسان عبد القدوس تقدم بدعوى قضائية ضد رمسيس نجيب بسبب استخدام الاسم، لكن بعد ثلاث سنوات كانت نادية لطفي، الممثلة، تؤدي دورا بارزا في فيلم "لا تطفئ الشمس" المقتبس من روايته. ومن بعد شاركت في أفلام "النظارة السوداء" و"أبي فوق الشجرة" و"سقطت في بحر العسل" وكلها من تأليف إحسان عبد القدوس.
في الفترة التي أعقبت ظهور نادية لطفي في السينما، أطلّت سعاد حسني، الوجه الجديد الآخر. كلتاهما، نادية وسعاد، ستصبح من أبرز نجوم السينما المصرية، شهرة ونجاحا وبراعة أداء. كنت في عمر المراهقة آنذاك، معجبا بأداء سعاد حسني وبجمال نادية لطفي. وما لبثت أن أعجبت أيضا بجمال سعاد حسني وبأداء نادية لطفي. وسعدتُ حين شاهدتهما معًا في فيلم "السبع بنات" (1961). وقبل ذلك بفترة وجيزة التقيت نادية لطفي لأول مرة.
كانت تحتفظ بعلاقات صداقة مع زملاء من الوسط الفني
كانت تشارك في فيلم "مع الذكريات" مع أحمد مظهر ومريم فخر الدين، بإدارة المخرج سعد عرفة (أبو شريف). وكنت حصلت على تصريح من المنتج لحضور تصوير بعض المشاهد. وللمصادفة أنها كانت وحدها في غرفتها تراجع دورها. كدت أتسمر في مكاني، ومن الباب المفتوح ألقيت عليها التحية، وأخبرتها أنني قريب المنتج قالت بلطف بهرني "أهلا ومرحبا، حتى لو ما كنتش قريبه". أسرعت في الكلام ليقيني أن اللقاء لن يطول، ذكرت لها أنني شاهدت أفلامها السابقة "حب إلى الأبد" و"عمالقة البحار" و"حبي الوحيد"، وأنني معجب للغاية، وطلبت منها صورة بتوقيعها. اعتذرت لأن الصورة لم تكن في متناول يدها، فبادرتُ قائلا "سأحضر غدا إلى هنا أيضا". في اليوم التالي قصدت ستوديو جلال، وتسلّمت الصورة مع توقيع النجمة. وإذ حاولتُ أن أطيل عبارات الشكر، مرّ المخرج المسرحي فتوح نشاطي، وكان يؤدي دورا في الفيلم، فحيّته نادية لطفي باحترام شديد. كان حضوره يعني وجوب انسحابي. بعد سنوات، وفي لقاء معها في بيروت، أخبرتني أن فتوح نشاطي والمخرج الآخر زكي طليمات، درّباها في البداية على الأداء السليم. أما أستاذها الأول فكان عبد الوارث عسر، معلّم الكثيرين ممن أصبحوا نجوما كعمر الشريف.
واظبتُ على حضور أفلامها، سعيدا بأنني عرفتها شخصيا! من "الخطايا" مع عبد الحليم حافظ، وإخراج حسن الإمام، إلى "السمّان والخريف" مع محمود مرسي إخراج حسام الدين مصطفى، مرورًا بفيلم "المستحيل" مع كمال الشناوي وإخراج حسين كمال، وخصوصا "قصر الشوق" عن رواية نجيب محفوظ وإخراج حسن الإمام، بمشاركة يحيى شاهين، وفيه أدّت نادية لطفي ببراعة دور الراقصة الشعبية زوبه.
وفي أواخر 1968 التقيتها مجددا في بيروت عندما جاءت إليها لتصوير فيلم "أبي فوق الشجرة" مع عبد الحليم حافظ، من إخراج حسين كمال. في هذا اللقاء كان لساني طلقا في الحديث على عكس اللقاء الأول حين كنت أبتلع نصف الكلمة خجلا. انشرحَت إذ عرفَت أنني شاهدت معظم أفلامها، وإذ سمعَت مني عبارات الثناء على أدائها، لكنني لم أخفِ امتعاضي من إخراج حسام الدين مصطفى، الذي - في رأيي – أفرغ رواية نجيب محفوظ من الكثير من مضامينها السياسية المُبطّنَة، واكتفى بجعله فيلم "أكشن" وإثارة. لكنني صادقا نقلت إليها إعجابي بأدائها دور ريري، فتاة الليل، وإعجابي بأداء محمود مرسي، في دور السياسي المنتمي إلى حزب الوفد، وعزلته بعد أفول هذا الحزب.
ولن أنسى لقاء آخر مع نادية لطفي بالقاهرة سنة 1972. كان المخرج فطين عبد الوهاب في زيارة إلى بيروت، وكنت مزمعا السفر إلى القاهرة في اليوم الذي يسبق عودته. أعطاني أرقام تلفونات نادية لطفي وشادية وتحية كاريوكا، وطلب مني أن أتصل بهن لإبلاغهن دعوة منه إلى العشاء في اليوم التالي، يوم وصوله. ثم أقنعني بأن أؤجل سفري يوما لنترافق في الطائرة. غيّرت التذكرة، وتوجهت إلى المطار وانتظرته، لكنه لم يحضر. وكنت آخر الركاب الذين استقلّوا الطائرة، أطلت البحث عنه، لكنّي لم أره. ولم يكن اختراع التلفون المحمول قد أنجز بعد. ولدى خروجي من قاعة الواصلين في مطار القاهرة كان رجل بين المستقبلين ينادي "الأستاذ فطين عبد الوهاب" فاقتربت منه وأخبرته أنه لم يحضر. قال أنا سائق مدام نادية لطفي وهي جاءت لاستقباله، فرجوته أن ينقل إليها ما سمعه مني، وحين طلب مني أن أبلغها أنا ذلك، وجدت الفرصة سانحة لكي أخبرها عن دعوة العشاء. كانت تنتظر في سيارتها، وأخبرتها أنه ربما تأخّر لسبب ما، وحتما سيحضر في طائرة هذا المساء. لكنه لم يحضر، بل فارق الحياة وهو في الفندق يستعدّ للتوجه إلى مطار بيروت.
اهتمّت بشكل مباشر بأسر الشهداء بعد نكسة يونيو 1967
كانت نادية لطفي تحتفظ بعلاقات صداقة مع الزميلات والزملاء من الوسط الفني. تعودُ المرضى وتؤاسي الحزانى وتشارك الفَرِحين. وتتمتع بحسّ وطني جعلها تهتم بأسر الشهداء بعد نكسة يونيو/حزيران 1967. ثم زارت الجنود في الخنادق بغية رفع معنوياتهم خلال ما عُرف بحرب الاستنزاف. وإبّان حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 تطوّعت قائمة بأعمال التمريض في المستشفى العسكري بالقاهرة، وفي مستشفى القصر العيني. وقد نقل المخرج شادي عبد السلام هذه الوقائع والأجواء إلى فيلم "المتطوّعة" الوثائقي، سجّل فيه ما قامت به نادية لطفي، وقد عرض بعيد الحرب. وكانت نادية لطفي على صداقة مع شادي عبد السلام، وقد ظهرت "ضيفة شرف" في فيلمه الرائع "المومياء"، وهو الذي صمم لها ديكورات شقتها.
واستطرادا يقودني الحديث إلى صفة المناضلة الملتزمة، خصوصا بالقضية الفلسطينية. أثناء الحصار الإسرائيلي على بيروت سنة 1982، سافرت نادية لطفي إلى العاصمة اللبنانية وأقامت أسبوعين دعما للمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، والتقت مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، ياسر عرفات، ووثّقت أيام الحصار بأشرطة فيديو. وكانت بعد مشاركتها سنة 1993 في المسلسل التلفزيوني "ناس ولاد ناس" مع عبد المنعم مدبولي وكرم مطاوع وأمينة رزق، قد اعتزلت التمثيل تماما. بيد أنها وافقت على العودة فقامت بدور أساسي في أوبريت "القدس ح ترجع لنا" (سنة 2000) مع محمود ياسين وفاروق الفيشاوي وآثار الحكيم وحشد من نجوم التمثيل في مصر. وقد روت نادية لطفي أن تعاطفها مع القضية الفلسطينية بدأ سنة 1948، عام النكبة. كانت طفلة في الحادية عشرة من عمرها، وشاهدت صور ممرضات الهلال الأحمر الفلسطيني، فحكت لها أمها ماذا حلّ بفلسطين، وقررت الطفلة نادية أن تصبح مثل تلك الممرضات حين تكبر. حققت شيئا من هذا الحلم بالتمريض، وشيئا آخر بدعم القضية الفلسطينية.
في سنة 1988 مثّلت لآخر مرة في فيلم سينمائي. كان الفيلم بعنوان "الأب الشرعي" من إخراج زميل صفّي في المعهد العالي للسينما، ناجي أنجلو. زرت القاهرة في تلك السنة، ورافقت ناجي إلى شقة نادية لطفي في شارع النباتات بحيّ جاردن سيتي. وحين التقينا أراد أن يكون وسيط التعارف، فقالت له: "عارفاه. الشامي المصري". بهرني في بيتها حشد اللوحات وهي بتوقيع فنانين تشكيليين مصريين من أجيال مختلفة، مثل سيف وانلي، وجورج البهجوري ويوسف فرنسيس الذي صوّرها بريشته في بورتريه أنيق. ومنها عرفت، أنها كانت تهوى الرسم وهي تلميذة في المدرسة الألمانية بالقاهرة.
في مسيرتها مثّلت نادية لطفي نحو 75 فيلما، وشاركت بمسلسل تلفزيوني وحيد، وبمسلسل إذاعي واحد "أنف وثلاثة عيون" عن رواية لإحسان عبد القدوس، لكنها لم تشارك في الفيلم السينمائي المقتبس من الرواية ذاتها، وكان من بطولة ماجدة. ووقفت مرّة وحيدة على خشبة المسرح، في دور الراقصة "بمبة كشّر" مع عبد المنعم مدبولي. ولم تتكرر التجربة برغم نجاحها وتشجيع المخرج حسين كمال والمؤلف سمير خفاجي.
تزوّجت ثلاث مرات، من خارج الوسط الفني. وأنجبت ولدا واحدا يدعى أحمد، من زوجها الأول الضابط البحري عادل البشاري. (وهي أيضا ابنة وحيدة). وبعد معاناة من مرض عضال، توفيت عام 2020 وهي في الثالثة والثمانين.