درب السمّوني... صدمات تُعاد كتابتها بالطباشير

19 فبراير 2024
يعتمد مخرج "درب السمّوني" على الحركة الحيّة والرسوم المتحركة (IMDb)
+ الخط -

كيف تمثِّل مجزرة؟ كيف تعيد تقديم جريمة حرب على الشاشة؟ كيف تقدّم رواية لذاكرة ممحاة؟ يحاول الفيلم الوثائقي "درب السمّوني" (2018)، لستيفانو سافونا، القيام بذلك، بجمع أجزاء من الذاكرة في سردٍ مُتغيّر الألوان. اعتماداً على تجارب أطفال عائلة السمّوني، خاصة الصغيرة أمل، يعيد سافونا (باليرمو، إيطاليا ـ 1969) بناء حلقة مروّعة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008، حين قضت إحدى الغارات الإسرائيلية على 48 مدنياً، بينهم 29 فرداً من العائلة المعنيّة، أثناء نومهم في إحدى "المناطق الآمنة" في حيّ الزيتون، أكبر أحياء مدينة غزّة من حيث المساحة، وثانيها من حيث عدد السكان.
الفيلم المعروض للمرة الأولى في الدورة الـ50 (2018) يمنح صوتاً للناجين من العدوان، ويتحدّث معهم عن الماضي والحاضر. لكنّه يحاول أيضاً إعادة إنشاء/إنتاج الأحداث نفسها. يوفّر الأساس لذلك من خلال روايات شهود العيان، ومعلومات من الصليب الأحمر، ونتائج التحقيق في كيفية وقوع الجريمة. غير أنّ طريقة عمل سافونا في فيلمه هذا، تحديداً، أكثر إثارة للاهتمام، إذ تسعى وتقترح تضامناً نشطاً وفعّالاً مع ضحايا التاريخ، بدءاً من ضرورة رواية قصّتهم وتفسيرها، والخروج منها بدرسٍ مستفاد. ربما يكون كلّ مخرج وثائقي صحافياً ومعلمّاً، بصورة أو بأخرى، يهدف إلى نقل المعرفة، ليجعل مشاهديه أقلّ سلبية في مواجهة الأخبار، أملاً في أشكال تضامن أكثر جذرية من مجرّد التعاطف العام، وغمغمات تطلقها شفاهٌ يائسة.
في "درب السمّوني"، حاضرٌ تصنعه المقابلات، وذكريات الناجين، والتصوير في أماكن الأحداث الحقيقية. الذكريات، بانعكاساتها وبما يترتّب عنها من أحكام، تحضر، بينما تغيب السياسة الفلسطينية والساسة الفلسطينيون. في المركز، هناك وجهة نظر الضحايا، قصّتهم وقصّة شهدائهم، وحدادهم وصدماتهم. وجهة النظر الإسرائيلية تُستدعى بمؤثرات خاصّة، بسيطة وفعّالة. الأهداف ـ المدنيون نراهم على شاشات الكمبيوتر من أعلى، من منظور القاذفات. هذه المشاهد ربما تكون الأفظع في الفيلم كلّه: آلة الحرب في السماء تصبّ رصاصها على الأبرياء، بلا تفريق. صُوَر القصف الإسرائيلي أُعيد بناؤها من وجهة نظر طائرة من دون طيار، في صورٍ رقمية ثلاثية الأبعاد، باستخدام مواد وحوارات تأكّدت بدقّة من قبل لجنة تحقيق داخلية في جيش الاحتلال.
يُظهر "درب السمّوني" أيضاً، في قلب هذه القصة، رعبَ الحرب الحديثة، التي تبيد من على مسافة بعيدة، تحت المصطلح التضليلي لـ"الضربات الجراحية"، وتفضي إلى مذابح بشرية مجهولة المصدر، وموتٍ مجاني وعشوائي، ضحاياه دائماً مدنيّون يتعيّن عليهم تحمُّل عبء حزن لا يمكن تجاوزه.
إلى جانب ذلك، يهتمّ الفيلم بوضوح بمسألة التمثيل: الأطفال منحنون باستمرار على الأرض للرسم، ينتهي بهم الأمر دائماً إلى إعادة صوغ صدماتهم بالطباشير. حتّى إنّ عطية، والد أمل والمتحدّث البارز، يرى أنّ القصص تُميّز البشر عن الوحوش. تخيّم تعليماته على أطفاله بشكل كبير: تبدأ أمل الفيلم بالتفكير في أنها "لا تعرف كيف تحكي القصص"، ويأسف شقيقها الأكبر فرج، لأنّهم لم يكتبوا القصص التي رواها لهم عطية قبل مقتله: "كيف كان يُفترض بنا أن نعرف ما سيأتي؟"، يسأل فرج.

لكنّ سافونا لا يُقدّم أي إجابات سهلة حول ما يفعله التمثيل، ربما انطلاقاً من توجّهه أساساً إلى مجموعة صغيرة من الناس، الأصغر سنّاً، والأكثر هشاشة، ممن لا يملكون إجابات واضحة. يحشد "درب السمّوني" الحاضر والماضي المؤلم، من خلال الرسوم المتحركة (استغرق الأمر سبع سنوات من العمل)، كما فعل الكمبودي ريثي بانّ في فيلمه "الصورة الناقصة" (2013)، الذي استعاد فظائع حدثت في فترة حكم الخمير الحُمر، الديكتاتورية الكمبودية، بين عامي 1975 و1979. تملأ الرسوم المتحرّكة، بالأسود والأبيض، الفجوات في ذكريات أمل، التي لم تخرج من صدمتها بعد. رسومٌ بسيطة ومفصّلة، لكنّها في الوقت نفسه غريبة وواقعية وسريالية في آنٍ. بهذه الطريقة، ينجح سافونا في تصوير رعب كابوس مأسويّ لا مفرّ منه.
في حين تظهر لحظات من الاستعارة البليغة، مثل طيور أبابيل القرآنية التي تُسقِط حجارتها على جيش الأفيال الغازي، تأتي تسلسلات الأسود والأبيض أكثر وحشية وإيلاماً. هناك، يعيش عطية، في عالم الرسوم المتحركة، ونشاهده حين يسحقه الجنود الإسرائيليون في منزله.
يعتمد سافونا على أصوات وأشكال عدّة، من الحركة الحيّة (live action) والرسوم المتحركة ولقطات الطائرات من دون طيّار، المُعاد بناؤها. لكنْ، هناك شعور بأنّ المأساة على هذا النطاق الجماعي يصعب تمثيلها بسهولة، وبالتالي يلوح سؤال حول كيفية التوثيق وكتابة التاريخ، حين تكون الوقائع التي ترويها حدثت قبل سنوات عدّة. في عمل من أعمال الإدارة المهووسة، يتصفّح الغزّيون بطاقات هوية مُصوّرة، لتجميع قائمة شاملة بضحايا القصف الإسرائيلي. وبصرف النظر عن كتابة صفّين من الأسماء على قطعة من الورق، يرسمون شجرة عائلة واحدة مترامية الأطراف، عشيرة السمّوني، قُلِّمت فروعها قبل الأوان.
في ظلّ مقتل معظم أفراد العائلة، يبدو سافونا متمسكاً بفكرة إعادة الإنماء، وضرورة البدء من جديد على أي حال. يرينا بساتين أعيدت زراعتها بعد الدمار، ويختتم الفيلم بحفل زفاف فرج. في الوقت نفسه، يذكّر الفيلم أيضاً بأنّ الدمار يترك التربة قاحلة في أعقابه، غالباً. محمود، أحد الإخوة الأصغر سناً، الذي لزم عليه أن يصبح "الأبّ" لإخوته الصغار، يتعهّد بعدم الزواج أبداً، لتجنّب ترك أرملة وراءه إذا مات في سبيل المقاومة.

يستعيد والده أثناء تحدّثه بهذا الكلام، لكنّ التمثيل هنا لا يوفّر أي ترميم أو تنفيس، بل يبدو مُحفّزاً للابن وهو يطلب من والدته السماح له "بالذهاب لتحيّة والده".
هذا ليس مجرّد فيلم آخر يدين مذبحة ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد فلسطينيين، بل رؤية أنثروبولوجية جديدة، وقبل كلّ شيءٍ، متجذّرة في الحاجة إلى التقاط تعبير عن الحياة اليومية، حيث يستمر الفلسطينيون بزراعة أشجار الزيتون، والحفاظ عليها، تماماً كما إقامة حفلات الزفاف للاحتفاء بالحياة وإكمالها، رغم كلّ شيء.

المساهمون