"حجرة العجائب"... غييرمو ديل تورو في زيارة إلى الرعب

04 نوفمبر 2022
تقدم ثاني حلقات المسلسل درساً أخلاقياً (نتفليكس)
+ الخط -

بالتزامن مع الهالوين لهذا العالم، وعلى مدى أربع ليال متتالية، أطلقت "نتفليكس" سلسلتها الجديدة تحت عنوان Guillermo del Toro’s Cabinet of Curiosities (حجرة العجائب من غييرمو ديل تورو)، وهو مسلسل أنثولوجي يقدم ثماني قصص مختلفة، منتقاة من أعمال أدبية من القصص القصيرة، متنوعة في شخصياتها وموضوعاتها، وفي مزاجها العام وحقبتها التاريخية.

لم يقف غييرمو ديل تورو وراء الكاميرا هذه المرة، لكنه عمل على تنظيم المسلسل الذي يحمل اسمه، اقتداءً ببرنامج ألفريد هيتشكوك الشهير Alfred Hitchcock Presents، جامعاً عدداً من المخرجين من أصحاب البصمات المميزة في عالم الرعب، مثل جينيفر كينت وديفيد بريور وبانوس كوزماتوس على قماشة واحدة، ليعكس بخياراته عدداً كبيراً من الرؤى والأساليب الإخراجية المتنوعة.
يقود القصص عدد كبير من الممثلين، بمن فيهم تيم بليك نيلسون، وإف موراي أبراهام، وغلين تورمان، وروبرت غرينت، وأندرو لينكولن. أما المختارات القصصية المختلفة، فتعود إلى كتاب متنوعين، من بينهم إتش بي لوفكرافت وديل تورو نفسه.

مع بداية كل حلقة، يبتدئ ديل تورو، وهو محرك الدمى وسيد العرض، الرحلة الغامضة بإخراج غرض محدد من خزانة العجائب الأثرية أمامه، سواء كان جهاز تحكم في التلفاز، أو قماشة مطرزة، أو قرناً. يغدو ذلك الغرض، على اختلافه، مفتاحاً للقصة التي ستحبس أنفاسنا خلال الساعة المقبلة، ووعداً مؤكداً بجرعة عالية من الرعب والإثارة، وهذا ما يلقاه المتفرج في معظم الحلقات بالفعل.

تندرج القصص الثماني تحت نوع الرعب، لكنها تختلف اختلافاً جذرياً في مناهجها ومنابع الرعب التي تستقي منها، إذ يحاول بعضها تحدي الجانر وتقديمه بشكل معاصر يبحث عن الرعب في واقعنا اليومي، وليس في عوالم متخيلة أو ميتافيزيقية، ويستوحي من رموزه وصيحاته ما هو مفزع وقاتم. في حين يميل بعضها الآخر إلى محاكاة مدارس الرعب السيكولوجي من ثمانينيات القرن المنصرم، وتعيد أخرى إرثاً قديماً، لتغدو بمثابة "تحية" (Tribute) إلى أنواع أكثر تقليدية من الرعب، كتلك التي تدور حول قصص الساحرات وكتب الشعوذة والغابات السحرية والحيوانات الناطقة، أو إلى أفلام غييرمو نفسه، بتقليد وحوشه وكائناته المميزة في العديد من القصص عبر السلسلة.

يتناول المسلسل موضوعات مختلفة من الجشع والكراهية إلى الانعزال والخسارة، بعضها استعاري ورمزي، وأخرى أكثر مباشرة ووضوحاً، بأسلوب سردي متقن يتصاعد ببطء ليصل إلى نهايات معلقة، تدفع المشاهد في نهاية كل حلقة إلى التساؤل عن معنى ما قدم على طولها.

تبدأ الأنثولوجيا بحلقة Lot 36، وهي عن جندي أميركي سابق حارب في فييتنام، يقع تحت وابل من الديون، يُدعى نيك، يعيش خلال عهد ريغان، ويتغذى على نظرية الاستبدال العظيم والإبادة الجماعية للسكان البيض، مؤمناً بأن الجماعات المهاجرة إلى بلده مهمتها استبدال البيض وتدمير حضارتهم وثقافتهم بشكل ممنهج. يحاول نيك سداد دينه عبر استئجار مساحات تخزين بديلة عن البنوك وبيع محتوياتها بعد وفاة أصحابها، لكنه يُفاجأ بحصوله على مساحة كانت لنازي سابق، وما أن ينبش أكثر في محتوياتها، حتى يعثر على قوى شريرة يحتجزها النازي داخل غرفته، مانحًا إياها جسد أخته لتحتله. سرعان ما توضح قصاصة صحيفة تُنبش في الغرفة أننا رأينا النازي نفسه في بداية الحلقة وهو يقطع اللحم، غالباً لإطعام وحشه الحبيس، محتفظًا بصورة أخته التي ضحى بها فوق تلفازه الذي يعرض خطاباً سياسياً للرئيس الأميركي السابث جورج دبليو. بوش عن غزو العراق. تتطرق القصة إلى مفاهيم العنصرية والنازية الجديدة بوضوح جلي، وتصفها بالشرور التاريخية المتكررة، ولعنة تنجح في النهاية بابتلاع نيك والمشتري الذي كان معه بنهاية "تطهيرية"، يدفع فيها البطل ثمن معتقداته الشريرة، ويلقى مصيراً مشابهاً لذاك الذي تمناه للآخرين.

كما الحلقة الأولى، تقدم ثاني حلقات المسلسل درساً أخلاقياً إلى حد ما، وتروي قصة رجل مثقل بالدين أيضًا، السيد ماسون، وهو حفار قبور يسرق الجثث بعد دفنها. يتصارع ماسون مع أسياد عالم الموتى، وهم الفئران الذين ينجحون في الوصول إلى الجثة وجرها إلى باطن الأرض قبل وصول نباشي القبور إليها. ومع تزايد التهديدات التي يوجها إليه دائنوه الشرسون، يقرر السيد ماسون الغطس داخل ذلك العالم المجهول، أملاً في البقاء على قيد الحياة، زاحفاً كفأر في سراديب القبور وأقنيتها للحاق بجثة ترتدي ممتلكات ثمينة أُهديت لها من قبل الملك جورج، لكن العالم السفلي لا يتهاون مع جشع ماسون وطمعه ولا يغض النظر عن زيارته القصيرة، فيقرر حبسه إلى الأبد في تابوت سرعان ما يأتي نباشون آخرون لنهبه.

لا تقل الصورة في تلك القصة أهمية عن مضمونها، حتى أنها تتجاوزه في كثير من الأحيان، إذ يعمل مخرجها على رسم عالم القبور بطريقة مذهلة، ويصمم مخلوقات مفزعة ومتقنة، منها جرذ ضخم مخيف، مصوراً معظم لقطاته داخل سراديب ضيقة ومعتمة تغزوها الجرذان وتنحت الإضاءة تفاصيلها بدقة، حتى أنه يصور منزل ماسون كقبر فوق الأرض، منذراً بوفاته المبكرة قبل وقوعها.

القصة الثالثة، وهي الأكثر إثارة وغموضاً عبر السلسلة، تتحدث عن عملية تشريح يقودها طبيب شرعي عقب انفجار في أحد مواقع التعدين خلّف تسع جثث بلا دماء تحت الأرض. تتحدث القصة في أولى طبقاتها عن جسم فضائي خارجي يحاول غزو جسد بشري والتغذي على دمائه قبل الانتقال إلى مضيف آخر، لكنها تحمل في طياتها معنى أكبر من ذاك المتخيل، فالطبيب المشرح مصاب بمرض عضال سينهي حياته خلال ستة أشهر.

لن يمضي وقت طويل قبل أن يشعر المشاهد أن الجسم الفضائي الغريب الذي يغزو جسد الطبيب يتشابه مع مرضه المميت إلى حد كبير، فكلاهما يسعى للسيطرة على جسده والتسبب في معاناته قبل إنهاكه والقضاء عليه. وحال إدراكه للحقيقة التي لا مفر منها، يقرر الطبيب إفشال تلك الغاية وإعادة السيطرة على جسده الذي يسلب منه عنوة، لكن بأثمان عالية، فيطمس حواسه ويقطع شريانه منهيًا حياته بيده، ليجرد كلًا من المرض والجسم الفضائي الغريب من كل ما يمكن أن يسبب لهما المتعة.

أما القصة الرابعة فتعد نموذجاً واضحاً على قدرة نوع الرعب على توجيه النقد وإيصال الرسائل، وهي عن عالم معاصر من وجهة نظر ترى الواقع كديستوبيا مخيفة، وتبحث في مفاهيمه التسليعية الخطيرة، مركزة على الضغوط المجتمعية التي تواجهها النساء بوصفها أسلحة فعلية تقضي على حياة المرأة وتشوهها.

تقود القصة ستايسي (كيت ميكوتشي) وهي امرأة محرجة اجتماعياً، تتوق إلى الحصول على القبول من زميلاتها في العمل، ويقودها هوسها للإصغاء إلى إعلان يُعرض على التلفاز ويتحدث إليها بشكل مباشر، مقنعاً إياها باستخدام منتج تجميلي سيغير مظهرها ويمكنها من الانسجام مع من حولها. تنطلي الخدعة التسويقية على ستايسي التي تشتري كميات هائلة من الدهون المرطب باهظ الثمن، وتواصل استخدامه مع أنه يسبب لها حساسية جلدية واضحة، مقتنعة بأن المعاناة جزء من عملية التحويل الجسدي، حتى أنها تقتل زوجها عندما يرفض فكرتها عن الجمال. يتسرب المرطب من علبه مشكلاً هيئة بشرية تلتحم معها ستايسي، لتتحول في آخر الأمر إلى الشكل المثالي الذي ترغب به، مع أن مظهرها لا يتغير، لكنها ترى نفسها بعين مختلفة عقب انتهاء عملية التحول المزعومة، وكذلك يراها الآخرون أيضاً.

تقدم تلك الحلقة نوعاً مغايراً من الوحوش، فبعدما اعتادت سلاسل الرعب أن تظهر الوحش مخيفاً وقبيحاً، يبدو الوحش جميلاً هذه المرة، ويرتدي أجمل الأزياء، متمثلاً في مجتمع الاستعراض ونزعاته الاستهلاكية ومعاييره الزائفة التي تصب الجميع في قالب واحد، وتنتقد الحلقة وسائل الإعلام بشكل خاص، لما تساهم به في عملية تعميم المعايير الجمالية وتكريسها في المجتمعات.

لا تقدم الحلقات الأخرى، مثل Pickman's Model، وDreams in the Witch House، وThe Viewing، ثقلاً على صعيد المضمون، لكنها تنجح في تحقيق إبهار بصري وسمعي على حساب المعنى أحياناً، خاصة الحلقة السابعة التي تقدم رعباً سيكولوجياً مختلفاً عما قُدم على مدار السلسلة، بإضاءة طقسية ذات لون برتقالي وإيقاع موسيقي معاصر ومرعب، يذكرنا بأعمال ديفيد لينش.

في القصة يدعو رجل ثري (بيتر ويلر) عددًا من الرواد في مجالات مختلفة من الأدب والعلوم والموسيقى لقضاء سهرة جامحة في منزله الفخم وإبداء آرائهم حول أحد مقتنياته الأثرية، وهي صخرة لم تفلح صور الأشعة ولا المختبرات العلمية في فهم ماهيتها. تتفاعل الصخرة في نهاية السهرة مع دخان أحد المدعوين وتتحول إلى وحش أحمر يحلل أجساد الموجودين، ويحتل جسد الرجل الثري كمضيف له، محولاً إياه من مقتن إلى مُقتنى، ثم ينطلق الوحش الذي بات نصف بشري إلى مجاري الصرف الصحية في ما يبدو بداية لرحلته التدميرية الطويلة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

أما القصة الأخيرة، "الهمهمة"، وهي من كتابة ديل تورو، فتجري أحداثها في جزيرة منعزلة حيث يدرس عالما الطيور المتزوجان (إيسي ديفيس وأندرو لينكولن) أنماط الطيران لطيور الدنلين، فيما يحاولان التعافي من مأساة وفاة طفلتهما من دون أن يتمكنا من الحديث عنها. خلافاً للقصص السابقة، يأتي الرعب في هذه القصة كامتداد لحزن الشخصيات وهلاوسها الشخصية ونضالها الدائم للتغلب على أوجاعها، وتنتهي بانتصارهما على الخوف المتمثل في استعدادهما للحديث عن مأساتهما الشخصية بعدما عايشا مأساة المنزل التي تتضمن وفاة طفل في ظروف كارثية أيضاً.

يقدم لنا مسلسل "حجرة العجائب"، طيفاً واسعاً من أنواع الرعب، لكل منها نغمته الخاصة، ويبتعد عن صيحة السلاسل الطويلة والمتراكمة التي تغزو الشاشات، مركزًا على المعنى بكثافة واختزال قل ما نرى مثيلهما اليوم. ومع أن بعض الحلقات ينجح في مسعاه أكثر من البقية، إلا أن حجرة ديل تورو غنية بالقصص التي تناسب شريحة واسعة من محبي الرعب، وتتحدى في شكلها ومضمونها الاجترار المبتذل لمشاعر الخوف والرهبة.

المساهمون