جيسيكا تشاستن: "مهتمّة دائماً بمخالفة صُور نمطية جندرياً"

18 سبتمبر 2024
جيسيكا تشاستن: أتمرّد دائماً على ما يُنتَظَر منّي (باسكل لو ساغرتان/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **بداية مسيرة جيسيكا تشاستن السينمائية:** بدأت جيسيكا تشاستن في جذب الأضواء عام 2011 من خلال أدوار مساندة في أفلام بارزة مثل "تيك شيلتر" و"شجرة الحياة"، مما ساهم في نجاحها.

- **أدوار متنوعة والتزام نسوي:** اختارت تشاستن أدوارًا متنوعة تعكس التزامها بنسوية غير صدامية، مثل "العام الأعنف" و"لعبة مولي"، وحصلت على جائزة أوسكار عن "عيون تامي فاي".

- **أعمال حديثة ومشاريع مستقبلية:** في 2023، ترأست لجنة تحكيم "المهرجان الدولي للفيلم بمراكش" وقدمت فيلم "ذاكرة"، وتبحث عن مشاريع فنية تتحدى القوالب التقليدية.

جذبت جيسيكا تشاستن (1977) الأضواء بدءاً من عام 2011، بفضل دورين مساندين في مَعْلَمتين سينمائيتين: "تيك شيلتر" لجيف نيكولز و"شجرة الحياة" لتيرينس ماليك. أداؤها شخصية المرأة المساندة لزوجها، مع مسافة غموض حمّال أوجهٍ، في الأول؛ والأم المُحبّة لأولادها الثلاثة بصفاء روحي المعالم، في الثاني؛ له دور أساسي في المعادلتين الجماليتين. انبرت بعدها لأدوار أولى، تجسّد نساءً ذوات إرادة قوية وتصميم على تحقيق الأهداف، أبرزها شخصية مُحلّلة في "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)"، المهووسة بمطاردة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وتصفيته، في "زيرو دارك ثيرتي" (2011) لكاثرين بيغلو.

أدوارٌ أخرى مهمّة أدّتها في العقد التالي، يظلّ الخيط الرابط بينها التزاماً قوياً بنسوية غير أحادية ولا صدامية، كان (الالتزام) سبب اختيارات، جلب بعضها ثناءً نقدياً، كـ"العام الأعنف" (2014) لجي. سي. شاندور، و"لعبة مولي" (2017)، باكورة آرون سوركين كمخرج؛ وبعضها الآخر صنع انتشاراً واسعاً بحكم طبيعته التجارية، كفيلم الحركة "الصياد: حرب الشتاء" (2016) لسيدريك نيكولا ـ ترويان، و"عنقاء الظّلام" (الجزء 12 من سلسلة "إكس مان") لسايمون كينبيرغ (2019)؛ أو أعمال طموحة تمزج الفنّي بالتجاري، كدور نجلة رائد الفضاء جوزيف كوبر في ملحمة "إنترستيلار" (2014) لكريستوفر نولان؛ أو تقمّصها شخصية المبشّرة المسيحية، المثيرة للجدل، في فيلم سيرة ذاتية، "عيون تامي فاي" (2021)، لمايكل شوالتر، الذي نالت بفضله جائزة أفضل ممثّلة في الحفلة 94 لـ"أوسكار" (27 مارس/آذار 2022)، و"صدفة فضية" لأفضل أداء في الدورة 69 (17 ـ 25 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان سان سيباستيان".

ترأست جيسيكا تشاستن لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة 20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، وقدّمت "ذاكرة" (2023) للمكسيكي ميشال فرانكو، وفيه أدّت دور سيلفيا: أمّ عزباء تعمل مُساعدة اجتماعية، وتسعى إلى تجاوز آثار إدمان الكحول بعد الإقلاع التام. لكنّ معاناة نفسية تجد جذورها في أحداث تعود إلى فترة المراهقة، تقضّ مضجعها حالياً، وتجعلها غير قادرة على بداية صفحة جديدة، ونسج علاقات اجتماعية عادية. لقاؤها سول (بيتر سارسغارد)، الذي يعاني الخرف، فتح أمامها باب المصالحة مع الحياة ومواجهة أشباح الماضي، بفضل علاقة حب غير اعتيادية، اجتمعت فيها هشاشتان لتصنعا نوعاً من التكامل، ورابطاً جديداً مع العالم، قوامه الحب وعيش اللحظة الحاضرة في منأى عن متاهات الذاكرة وزواياها القاتمة.

علاقة تناولها فرانكو بكياسة ومسافة تحافظ على الغموض إلى آخر مشهد، في فيلمٍ ربما يعطي انطباعاً بنهاية غير مكتملة، لكنّه يُوفَّق في إطلاق بواعث التفكير لدى المُشاهد في كنه الذاكرة ومدى وثوقيتها، وكيف تتراكم تفاصيلها لتكون هوية متغوّلة، تصبح مدعاة اضطراب وانعدام أمان. أداء الثنائي تشاستن وسارسغارد، وتلاحمهما في بوتقة واحدة، لا يخطئ طريقه إلى القلوب، مُستحقّاً وحده المُشاهدة.

 

(*) ما الذي استهواكِ في دور سيلفيا، في "ذاكرة"؟

ميشال فرانكو أول "ما" جذبني في المشروع. إنّه مخرج رائع. كما أنّي مهتمّة حقاً بالقصص الانتهاكية والمستفِزّة. في كلّ الشخصيات النسائية التي أدّيتها، كنت مهتمّة بمخالفة أي صُور نمطية جندرياً، أو ما يتوقّع المجتمع من المرء أنْ يفعله، أو أنْ يكون عليه. ميشال يحرص على كلّ ذلك تماماً على اعتباره صانع أفلام. لا يُمكنك أنْ تتوقّع منه أي شيء، لأنه سيفعل العكس في كلّ مرّة. يحب إبقاء الجمهور في حالة تشويق وعدم معرفة ما سيحدث من مشهد إلى آخر.

وجدت هذا بالتأكيد في "ذاكرة"، مع سيلفيا. منذ اليوم الأول في موقع التصوير، دخلت إلى الكنيسة، فوجدت نفسي وسط اجتماع فعلي لـ"مدمني الكحول المجهولين"، وأشخاص يروون قصصهم الحقيقية. لم أختبر شيئاً كهذا سابقاً. أعني أنّ هناك انغماساً يجب الاندماج فيه حقاً، بالطريقة نفسها لأعمال تيرينس ماليك. عليك أنْ تكون مستعداً لتصويرك في الأوقات كلّها، وأنْ تكون مع ممثلين غير محترفين. أحب ذلك، لأنّي أجد فيه تحدياً رائعاً لي كممثلة.

 

(*) الفيلم يتناول الذاكرة، وكيف تتراكم لتكوّن هوية. هل صُوِّر بحسب التسلسل الزمني للأحداث؟ كيف ساعدك العمل على ماضي شخصية سيلفيا في إعداد دورك؟

يُصوّر ميشال وفق الترتيب الزمني للأحداث. يُصوّر من زاوية واحدة. يحدث أنْ نُصوّر مشهداً ما، ونجري خمس محاولات مثلاً، ثم يأتي ويقول: "حسناً. حبّذا لو لم تقل هذه الفقرة"، أو "هل ترغب في أنْ تقول هذا بدلاً من ذلك؟"، ثم ينقل الكاميرا إلى مكان مختلف، فيقول الممثل لنفسه: "كيف يكون هذا؟ لا توجد استمرارية هنا؟". لكنّ هذا لا يهمّ، لأنّه يستخدم لقطة واحدة فقط في نهاية المطاف، وهو أيضاً أمر مُريح للغاية بالنسبة إلى الممثل، لأنّه يعني أنّه يمكن القيام بشيء مختلف تماماً من محاولة إلى أخرى. لستَ مُضطرّاً لمطابقة أي شيء.

كان بإمكاني أنْ أجرّب، مع بيتر سارسغارد، أشياء جديدة للشخصيتين في تصوير المَشاهد، وأنْ يتجاوب كلّ منا مع الآخر بشكل أصلي. ما أحبّه في التصوير بالترتيب الزمني للأحداث، واللقطة من زاوية واحدة، أنهما يسمحان ببناء الشخصية بالتدريج.

بالنسبة إلى سيلفيا، مُهمٌّ للغاية أنْ تكون لديّ خلفية درامية كاملة عنها، لأنّ ذاكرتَها مركزُ وجودها في الفيلم، وحقيقة أنّها لا تستطيع مواجهة العالم بصفحة بيضاء وجديدة. كل دخول لها إلى غرفة، تدخلها حاملة الخزي، وتجرّ وراءها آثار الصدمة النفسية والخوف، وأحياناً الغضب. كانت بحاجةٍ إلى شخص لا يستطيع أنْ يتذكّر كلّ هذا، فيراها بعين جديدة كلّ مرة، ويساعدها أيضاً على رؤية نفسها بعين مختلفة. لذا، كان عليّ أنْ أحدّد، قدر الإمكان، حتّى الأشياء التي لا يذكرها الفيلم بخصوص سيلفيا، كاتّخاذ قرار كيفية حَملها بابنتها، وما أدنى نقطة بلغتها في مسار الاكتئاب، ومتّى قرّرت الإقلاع عن الإدمان، وماذا جرى ذاك اليوم، وكيف كانت رائحة والدها، وما نوع الكحول الذي كانت تحتسيه مع جميع أولئك الأولاد. عملت بجدّ لأتّخذ كلّ هذه القرارات، إلى درجة أنّي كنت، حين أدخل موقع التصوير، أفاجَأ بأنّ أشياء تحدث من دون أنْ أعيها.

اليوم، عند مشاهدتي "ذاكرة"، أدرك مثلاً أن هناك فقّاعة غير مرئية تحيط بي، وفي كلّ مرة يمر شخص ما بجوار سيلفيا، يبدو كما لو أنْ لا وجود لأي احتمال بأنْ يلمسها أو يؤثّر فيها. لم أتّخذ هذا القرار بوعي أبداً. لكنْ، لأنّي اشتغلت كثيراً على ما كانته سيلفيا، بدا أشبه بالسّحر. حدثت الأشياء من تلقاء نفسها، نوعاً ما.

 

 

(*) عام 2023، قدّمتِ مسرحية "بيت الدمية" (أخرجها جيمي لويد عن نص لهنريك إبسن بالعنوان نفسه ـ المحرّر) على الخشبة، ورُشِّحتِ عنها لجائزة "توني". هل هناك إمكانية لعودتك إلى المسرح؟ هل هناك خصوصية تجعله يلامس مكامن إبداع لا تستطيع السينما أن تبلغها؟

مرّت عشر سنوات منذ عودتي إلى المسرح لتمثيل "بيت الدمية". مرة أخرى، أعتقد أنّ المخرج سبب ذلك. جيمي لويد مُنتهِك واستفزازيّ بشكل لا يصدّق. يأخذ نصّاً أصلياً ويُخرجه بطريقة تميط اللّثام على أجزاء منه لم تُتح لك ملاحظتها قبلاً.

شاهدت أخيراً مسرحية "سانست بولفارد" (المأخوذة عن كوميديا موسيقية لأندرو لويد ويبر، 1993. مقتبسة بدورها عن فيلم بيلي وايلدر بالعنوان نفسه، 1950 ـ المحرّر) في لندن. شاهدتها سابقاً على المسرح مرّات عدّة، بأداء ممثلات عظيمات. لكنّي لا أزال عاجزة عن فهم كيف استطاع جيمي أنْ يفعل ما فعله بها. كأنّي اكتشفتها للمرّة الأولى. أنا مُنجذبة حقاً إلى مخرجين وفنانين مُستعدّين للقيام بمنعرجات خطرة، ومهيَّئين لإخفاقات كبيرة كذلك. لأنّك، عندما تضع احتمال الإخفاقات الكبيرة، تفتح دائماً آفاقاً جديدة. أعتقد أن هذا يُثير الاهتمام في العودة إلى المسرح.

سأكون مهتمّة بالعمل مع مخرجين آخرين طبعاً. تحدّثت مع جيمي عن مشاريع مستقبلية يُمكننا العمل فيها معاً، منذ اشتغالنا في "بيت الدمية". سيكون المسرح بالتأكيد جزءاً من حياتي المستقبلية. لا تعرف أبداً ما الذي سيأتي، وما الذي ستقرّره أو تهتمّ به. لكنّي لاحظت أنّي أنجذب أكثر فأكثر إلى تقديم أفلام مؤلّف منخفضة الميزانية، أو مسرحيات، لأنّها بطريقة ما، تسمح بكسر القواعد التي لا تسمح لك الاستوديوهات أحياناً بكسرها.

 

(*) عندما تنظرين اليوم إلى الوراء، وتدركين كيف كان دورك في "شجرة الحياة" لتيرينس ماليك منعطفاً حاسماً في مسيرتك الفنية، وكيف كانت هناك انتظارات كثيرة حولك انطلاقاً منه، كيف استطعتِ التعامل مع الضغط الكبير الناتج عن ذلك؟ وعن اعتبارك من أهم الممثلات في جيلك؟

أعتقد أنّ الأمر نسبي. هناك حتماً اختلاف جوهري بين نظرة المُشاهد أو المراقب إلى مسار الفنان، ونظرة الفنان إلى مساره الخاص. لاحظت أنّي كلّما انتُظِرت بشكل ما، أسعى إلى التمرّد على الانتظارات، والدفع باتجاه مضاد لها تماماً.

بعد "شجرة الحياة" و"تيك شيلتر"، وكلّ الاهتمام الذي حظيت به ذاك العام، كان اختياري التالي فيلماً بعنوان "ماما" لأندريس موسكييتي، إنتاج غييرمو ديل تورو، أدّيت فيه دور أمّ مضادة. لم يكن بوسعي اختيار دور أكثر اختلافاً عما كانت الصناعة والعالم ينتظران منّي كممثلة.

أعتقد أنّي أفعل ذلك باستمرار. فبعد فوزي بـ"أوسكار" عن "عيون تامي فاي"، كان التالي "ذاكرة"، الذي لا يُمكن أنْ يكون أكثر اختلافاً بدوره (تضحك). أشعر أنّي أبحث عن مخرجين ومبدعين يعتمدون نوعاً ما على الانتهاك والمجازفة. أطالب نفسي بذلك أيضاً، فلا أسمح بمنطقة راحة أكثر من اللازم. يُمكن أنْ أحصل على اهتمامٍ كثير لفعل شيء معيّن وفوراً، وتلقائياً أجد نفسي أذهب إلى المنحى المضاد. لا أعرف. ربما يتعلّق الأمر بـ"إكس ـ مين"، أو أشياء سطحية كهذا، أو نوع أعمال لا يُمكن التكهّن بها. لا أحد مسؤول عنّي حقاً سواي (تضحك). أحمل ذلك عميقاً فيّ.

 

(*) ذكرتِ ثلاث مرّات "انتهاكية"، ومرّتين "مستفزّة"، ومرّة واحدة "كسر القواعد". لماذا تهتمّين بهذا النوع من المشاريع في هذه المرحلة من مسيرتك المهنية؟ أمْ أنّ الأمر دائماً هكذا؟

أعتقد أنّه دائماً هكذا. أحياناً، عندما تكون لديك عظمة مكسورة جزئياً، عليك كسرها كلّياً ليلتئم الكسر بشكل أفضل. أعتقد أن هذا يعمل كتمثيل جيّد لعلاقتنا بالمجتمع. يتعيّن عليك أحياناً كسر القوالب، وكسر سبل التفكير وطرق ارتباطك بالعالم. هذا ما ينتج أعمالاً، ربما تكون فيلماً أو قطعة فنية ـ لوحة تشكيلية، مختلفة تماماً، لكنها تنمو داخلك لأنّها بالضّبط تقع خارج نطاق انتظاراتك في لحظات معينة. مثل لوحة "غيرنيكا". إنّها إحدى أشهر اللوحات، وأكثرها تأثيراً، لأنّها... لا أريد قول كلمة "انتهاكية" مجدّداً (تضحك). إنّها مُتحدّية (confronting) بشكل خاص، والفن بنظري يجب أنْ يكون مُتحدّياً.

عندما نعيش حياة نكون فيها مستغرقين في النوم، هل نعيش حقاً؟ مهمٌّ جداً أنْ يكون لديك شيءٌ يوقظك من نومك، بين لحظة وأخرى، لتتمكّن كلّ يوم من التساؤل: "من أنا حقّاً؟". يجب أنْ نحرص على أنْ نكون غير قادرين على الإجابة عن هذا السؤال، لأننا ينبغي أنْ نتطوّر باستمرار.

 

(*) أنتِ من أكثر الممثلات نسويةً في هوليوود. متى أصبح هذا الالتزام جزءاً لا ينفصل عن عملك؟ ما الخيارات التي ينطوي عليها في حياتك العملية؟

هذا كان جزءاً منّي دائماً، من دون أن أعيه. ربما كان نابعاً من طفولتي، إذْ ربّتني أمٌّ عزباء، في أوضاع صعبة للغاية. لم نكن نملك طعاماً كافياً في أوقاتٍ كثيرة. طُردنا من المنزل لعجزنا عن دفع الإيجار. أتذكر ذلك الشعور بأنّنا كنا كعائلة غير مرئيين في المجتمع، مثل طريقة معاملة المجتمع لجدّتي، أو المسؤولية الجسيمة التي أُجبرت على تحمّلها في حياتها، وعدم حصولها على المساواة في الأجر، أو على فرصة كافية للتعلّم. انغرس في نفسي، منذ صغري، أنّ كلّ ذلك لم يكن عادلاً أو منصفاً، فأصبح ذلك الشعور جزءاً من طبيعتي. لذا، كلّما رأيت ما يُشعرني بانعدام العدالة، أو غياب المساواة، أو تمييز من أي نوع، أنتفض ضده. ولأنّه من طبيعتي، أصبح جزءاً من عملي، كوني أضع كلّ ما أنا عليه فيه.

المساهمون