جانغو رينهارت: غيتار في نزهة على شاطئ العالم

20 مايو 2021
مع إديت بياف (جيليز بيتارد/Getty)
+ الخط -

في سن الـ 18، تعرض جانغو رينهارت لحادث مروع، أفقده الإحساس بإصعبين من يده اليسرى، واحترق بسببه النصف الأيمن من جسده، وأصيبت ساقه اليمنى بالشلل. ولأنه كان يكسب قوته من العزف على آلة البانغو، أخبره الأطباء أنه لن يستطيع اللعب عليها ثانية. لكن كل ذلك لم يمنعه من أن يصبح أحد أهم عازفي العالم. تعافى رينهارت بغيتار أهداه إليه شقيقه. واستطاع خلال فترة تعافيه، أن يطور تقنية تسمح له بالعزف عبر إصبعين فقط.

كانت دهشة المحيطين كبيرة، تماماً مثلما كانت عندما أجاد العزف في سنّ الثالثة عشرة، عبر متابعته لعازفين، ونسخ حركة أصابعهم على الأوتار. الجاز الساخن لأبوين من الروما (الغجر)، ولد جان جانغو رينهارت في بلجيكا، يوم 23 يناير 1910. تعلم العزف على الكمان والبانغو والغيتار في سن مبكرة. ورغم أن أسرته امتهنت صناعة الأثاث من القصب، لكنها ضمت عدداً من الموسيقيين الهواة؛ فكان عزفهم في ليالي الغجر الساهرة ملهماً لما سيكون عليه. في السنوات التالية لحادثه الأليم، تعرف العازف الشاب إلى موسيقى الجاز للمرة الأولى، وأُعجب بلويس أرمسترونغ، وديوك إيلنغتون.

وبينما كان يحاول شق طريقه في هذا المجال، تعرف إلى عازف كمان شاب، طالما تردد على ذات المقاهي وسار في ذات الشوارع، لكنهما لم يلتقيا إلا من خلال أوركسترا تصادف أن عملا فيها معاً. خلال فترة الاستراحة، بعد عرض للأوركسترا، وحين كان ستيفان غرابيلي يبدل وتراً في كمانه ويضبطه، عزف لحناً بسيطاً، فتجاوب مع ارتجاله جانغو، ليولد ثنائي من أكثر عازفي الجاز إبداعاً وتميزاً. أسس الاثنان فرقة تحت اسم "هوت كلوب دو فرانس". كانت من أوائل فرق الجاز التي اعتمدت الغيتار آلة رئيسية. ووصف الكاتب والناقد الأميركي، توم جوريك، "هوت كلوب" بأنها "أكثر الفرق الموسيقية أصالة في تاريخ موسيقى الجاز المسجلة".

ابتدع رينهارت تقنية أو أسلوباً جديداً في تقديم موسيقاه، سُمي "الجاز الساخن"، وأمسى تقليداً موسيقياً في ثقافة الغجر في فرنسا، وتطلع كثيرون إلى جانغو بوصفه أول أوروبي يقدم إسهاماً كبيراً في تطوير اللون الموسيقي، وأصبحت مؤلفاته الأكثر شعبية مثل Daphne ،Djangology ،Swing 24، مرجعاً ومعياراً لموسيقى الجاز. نزهة على الشاطئ رغم بساطة مظهره، لكن البعض رأى فيه غرابة أطوار، فقد عاش حتى بعد نجاحاته لفترة طويلة في مقطورة. وكان معروفاً بين منظمي الحفلات أنه يمكنك أن تمنحه أجراً ضخماً وتخبره أن باريس كلها في انتظار حفلته، وترسل سيارة لإحضاره، لكن ذلك كله لا يحدث فارقاً إذا أراد الحصول على نزهة في إحدى الحدائق أو نزهة على الشاطئ. وفي إحدى الحفلات الخارجية المهمة (نوفمبر 1936) لـ"هوت كلوب دو فرانس"، اختفى رينهارت. وإنقاذاً للحفل، طلب أعضاء الفرقة من شقيقه الأصغر جوزيف انتحال شخصية جانغو والعزف بدلاً منه، ليجري اعتماد هذه الحيلة في المواقف المشابهة.

هذا السلوك في شخصية العازف الغجري، كان كفيلاً بأن يؤثر بمسيرته الفنية بصورة سلبية، لولا رجل تدبر الأمر وأدار تلك الثروة الفنية، هو تشارلز ديلوناي، مدير الأعمال الشغوف بموسيقى الجاز. رأى الجميع في رينهارت عازفاً فريداً، لكن ديلوناي أبصر مشروعاً فنياً ومدرسة موسيقية، فعمل على تطوير لاعب الغيتار وتقديمه على نحو مختلف، وانتقل بجانغو من هيئة يغلب عليها الارتجال، إلى صورة يقف فيها الموسيقي الغجري على رأس مدرسة فرنسية للجاز. وعندما احتل الألمان فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، وحُظر كل ما يتصل بالولايات المتحدة، وصُنِّفَت الجاز بأنها موسيقى "جوديو ـ نيغرو"، أنقذ ديلوناي عازفه من مصير المنع الذي طاول فنانين كثيرين، فلجأ مدير الأعمال إلى حيلة بسيطة، بأن غير أسماء المقطوعات الموسيقية، فجعلها أكثر فرنسية، وأمست Lady Be Good: Les Bigoudies، و The Mood: Ambiance... نجحت الفكرة البسيطة في الإفلات بحفلات جانغو من الرقابة، واتجه أيضاً إلى ألوان موسيقية أخرى؛ فحاول كتابة قداس للغجر إلى جانب التأليف السيمفوني.

في أثناء هذه الفترة، واجه جانغو خطراً آخر إثر استهداف النازيين للغجر، وقتلهم مئات الآلاف منهم. لهذا، حاول رينهارت الهرب مرات من فرنسا، غير أن محاولاته فشلت، وتكفل معجبوه من الضباط النازيين بإبقائه على قيد الحياة، فواصل تقديم حفلاته محمياً بشهرته، لكن عندما طلب منه الألمان العزف في برلين، أجبره ذلك على الفرار ثانية. إلى الولايات المتحدة بعد الحرب انطلق جانغو في جولة في الولايات المتحدة، حين دعاه ديوك إيلنغتون إلى إقامة عدة حفلات في نيويورك، سعد الموسيقي الغجري بتلبية الدعوة، فطالما أعجب بمشهد الجاز عبر المحيط الأطلسي، وبالفعل قدم عروضاً ناجحة، غير أنها لم تكن مرضية له.

 

رغم الاحتفاء واجتذاب حفلاته لجمهور كبير وعزفه مع عدد من الموسيقيين البارزين، مثل موري دويتش، إلا أنه وجد صعوبة في التواصل بسبب حاجز اللغة، كذلك إن اختلاف أسلوبه الموسوم بالنعومة والرقة عن طريقة الأداء الأميركية الصاخبة، حال بين فئات من مستمعيه وتقدير موسيقاه. وعده بعض المنظمين بإقامة عروض في كاليفورنيا، لكنه مل الانتظار، فعاد إلى فرنسا بعد أقل من عام (فبراير 1947). انغمس بعدها في حياة الروما (الغجر).

في الوقت ذاته رجع إلى اللعب مع توأمه الموسيقي، غرابيلي، الذي كان قد استقر طوال فترة الحرب في بريطانيا، ليعودا بعدها ويكتشفا معاً موسيقى البيبوب (نوع من الجاز ظهر وتطور بين أوائل ومنتصف الأربعينيات)، وليتجه رينهارت إلى استعمال الغيتار الكهربائي، عاملاً على تطوير عزفه ومؤلفاته لتتناسب والإيقاع الحديث. خلال السنوات التالية، قدم عدداً من أهم أعماله، ولعب وأذاع مئات التسجيلات مع أهم موسيقيي الجاز الأميركيين، مثل بيني كارتر، كولمان هوكينز، ريكس ستيورات، وشارك أيضاً في جلسة أداء إذاعي مع ملهمه أسطورة الجاز لويس أرمسترونغ. وجاءته فرصة لإعادة الكرَّة بغيتاره في الولايات المتحدة، والأداء مع أسماء مثل بيلي هوليداي وديزي غيليسبي وتشارلي باركر. لكن الموت استبق ترتيبات الرحلة، ليصاب جانغو بجلطة دماغية مميتة ويرحل عن عمر 43 عاماً في 16 مايو 1953.

عادة، تنتهي قصة الغجري الشاب هنا، خاصة أنه بعد رحيله انحسر أسلوبه، وباستثناء اسمين، هما ليه بول وتشارلي بيرد، لم يُسمع عزف ينتمي إلى مدرسة الموسيقي الغجري الأبرز، بينما هيمن أسلوب العازف الأميركي تشارلي كريستيان. لكن في عام 1973، أقنع عازف الغيتار ديز ديسلي، غرابيلي، بقيادة فرقة جاز إحياءً لأسلوب جانغو، وانطلقت الفرقة بعد تأسيسها في جولة حول العالم، لتلاقي حفلاتها نجاحاً كبيراً. مع ذلك، تأخر التدشين الأكيد لـ"موسيقى الجاز الغجرية" حتى الثمانينيات، عندما أسس عازف الغيتار جون لارسن "هوت كلوب دو نورفيج"، امتداداً لفرقة جانغو "هوت كلوب دو فرانس"، لتتشكل بعدها العشرات من مجموعات الـ "هوت كلوب"، وتستلهم أعداد كبيرة من العازفين أسلوب رينهارت، وتحمل مهرجانات الجاز في مختلف أنحاء العالم اسمه، وهو بعث لم يحدث مع موسيقي جاز قبله.

المساهمون