"صوت تيمي لم يكن يخرج من الحنجرة، بل من القلب. هي لا تغني الأغنية وحسب، بل تعيشها". هكذا، وصفت مغنية الجاز الأميركية السوداء، دينا واشنطن (1924-1963) التي تُعَدّ من بين أصوات الجاز الأكثر شعبية في عقد الستينيات من القرن الماضي، المغنية الأميركية تيمي يورو (1940 - 2004).
فيما كانت موسيقى الجاز والبلوز في تبلور مطّرد، مشكلةً الهوية الفنية الجامعة للمجتمع الأفروأميركي، برزت تيمي يورو (Timi Yuro) وهي لم تزل في الرابعة عشرة من عمرها. فتاة غضّة العود بيضاء البشرة، بدأت المشوار تغني في مطعم تديره أسرتها الإيطالية الأميركية في هوليوود بولاية كاليفورنيا. سرعان ما أخذت تُعرف بـ"السيدة الصغيرة ذات الصوت الكبير".
بجرأة وشجاعة، وعشق شديد لموسيقى الجاز، طمحت تيمي بعناد إلى أن تكون من صفوة مغنياته ومغنيه، وألا يؤطر صوتها الكبير بالأغاني الصغيرة والخفيفة. دفعها عنادها إلى أن تواجه شركة الإنتاج التي تعاملت معها، مهددة إياها بفسخ العقد الذي وُقّع معها، إن لم تُمنَح فرص تقديم أغانٍ جاز جادة.
أتت الانطلاقة مع Hurt، اسم الأغنية التي حملت عنوان ألبوم، كانت في الأصل أغنية رائجة لروي هاملتون (1929-1969) أعادت يورو أداءها، مستثمرة صوتها الجبار بنية تطويع أغنية قد عرفها الناس عبر طبقة رجولية. قد طاول سحر الأغنية سمع الأسطورة الأميركية إلفيس برسلي، الذي أعاد غناءها بصوته سنة 1976. هو الذي صرّح في غير مناسبة بأن كانت يورو واحدة من مغنياته المفضلات.
Hurt، صرخة مدوية تصدر عن قلب موجوع. هكذا تفتتح يورو الغناء بجملة "أنا مجروحة بشدة". ثم تهبط بصوتها ليستقر على نبض إيقاعي سداسي. يتخلل التوزيع الموسيقي جوقة نسائية ترافق الصوت الأساسي بانتقالات نغمية بلفظة "أوه" تحدد سير اللحن قدماً.
في سنة 1964، بعد جولة أوروبية أكسبتها جماهيرية واسعة في بريطانيا وهولندا، عادت لتسجّل ألبوماً، كان الأحب إلى قلبها، هو The Amazing Timi Yuro. في واحدة من أغانيه بعنوان Johnny، تؤدي تيمي بأسلوب البلوز. تُسمع مجاميع الكمان، تعزف لحناً أثيرياً يصدر عن طريق لمس الأوتار من دون الضغط عليها، ليخفف ذلك من سوداوية لحن رئيسي يحمل على متنه كلاماً يصف حباً غير مكتمل، ومن طرف واحد.
What's a Matter Baby إنتاجٌ فريد قدمه المنتج وكاتب الأغاني كلايد أوتيس (1924-2008) لتغنيه تيمي سنة 1962. تغلب على الأغنية الروح الحماسية. تبدأ بإيقاع صاخب، تخطّه على علو مرتفع الوتريات. مجدداً، يخطف صوت يورو الصدّاح الأسماع بحضوره ونفوذه، إذ يكاد يعادل في قوته جمع الآلات الموسيقية المصاحبة. على طريقة الستينيات، تسمع خلفها جوقة نسائية، تارةً تغلف صوتها وتارة تردد بأسلوب تزويقي، يسدّ الفراغات اللحنية، كأنها أصداء.
لطالما مثّل كلّ من التفرقة والتمييز العنصريين، عائقاً أمام صعود الفنانين الأميركيين السود درجات الشهرة والنجاح، فرض عليهم المكابدة والعناء، فضلاً عن الاجتهاد أضعافاً في سبيل التفوق أضعافاً مضاعفة على أقرانهم البيض، لمجرد أن يحظوا في نهاية المطاف بذات الفرص في أفضل الأحوال.
في المقابل، شكّلت تيمي يورو حالة معاكسة فرضتها هيمنة الأفارقة الأميركيين بصورة طبيعية، ومحقة أيضاً، على ميدان الجاز في فترة الخمسينيات والستينيات، ذلك بحكم أن تلك الموسيقى تعد بشكل أساسي نتاج إرثهم الثقافي غير المادي الذي حملوه معهم من القارة السوداء حين جُلب بهم إلى الأميركتين على يد المستعمر الأوروبي الأبيض.
من هنا، لم يكن من اليسير لسيدة بيضاء أن تحتل منزلةً مرموقةً بين صفوة من المغنيات والمغنين السود وحسب، ولكن أن تحظى أيضاً باعتراف وإعجاب نخبة من أبرز الفنانين الأفروأميركيين، عازفين وملحنين، فيُقبلون على التعاون الفني، يكتبون وينتجون لها الأغاني والألبومات، ويعزفون ضمن فرق تُحيي بصحبتها الحفلات، علاوة على الإشادة بجدارتها الموسيقية والتحدث عن مكانتها الفنية في الصحف وعلى وسائل الإعلام.
إلى جانب العزم والجدّ، تطلب ذلك الاختراق توافر خصائص طبيعية لدور يورو، تمثّلت بالصوت الجهوري الذي شابه في خامته الأولية الصوت الذي يصدر عن حناجر فناني الجاز والبلوز الأكثر شهرة في عصرها. إضافة إلى الملكة الفسيولوجية، ثمة حساسية ثقافية عندها قد مكّنتها من استيعاب وتشرّب الأساليب التعبيرية التي أبدعها وطورها جيل الجاز الأول والثاني أول القرن العشرين.
إلا أن يورو لم تقف يوماً عند المماهاة والمحاكاة، بل آثرت البحث والكشف بنية إحداث أسلوب خاص وتطوير مفردات جمالية مميزة لهويتها الفنية، وذلك من دون أن تخرج عن الهوية الثقافية والإطار الشكلي العام لموسيقى البلوز وأخواتها.
في ذلك التفرّد الذي توصّلت إليه يورو نقضٌ لجدلية الاستيلاء الثقافي، التي راجت في الآونة الأخيرة. إذ إن اعتبار التراث الموسيقي عالمياً بالدرجة الأساس، وملك للإنسانية جمعاء يجعل من العبور بين الهويات الفنية مسألة حتمية، وحيوية بالنسبة إلى مستقبل الفن والفنان.
شرط أن يمارس على طريقة تيمي يورك. أي أن يتم عبر استيعاب عميق وتمكن تام من محددات الأصالة لأية هوية ثقافية أولاً، ومن ثم العمل على فردنتها Individualisation، أي مزاوجة الأصالة الجمعية بالأصالة الفردية، ومماهاة الهوية العامة بهوية الفنان الخاصة، لجهة أسلوبه في التعبير وفحوى الرسالة التي يود أن يبث بها إلى المتلقي.
لذا فإنّ جملة "سيدة صغيرة بصوت كبير" لم تف تيمي يورو حقها. ذاك أنها لو لم تكن سيدة كبيرة، قبل أن يكون لها صوت كبير، لما حققت التجاوز أصلاً وأحدثت خرقاً؛ ما انفكّ الكبار يثبتون لنا من خلال سيرهم أنّ الشرط الأول ليس لتحقيق الشهرة بالضرورة، بل للخرق الإبداعي، وهو الأهم والأبقى، ليس حجم صوت، ولا رهافة الأذن ولا حسن الصنعة وطول الدربة، بل الشجاعة. الشجاعة أولاً، ثم البقية.