قلما تكون الأنباء على القدر من الأهمية الذي توليه لها وكالات الأنباء، إن لم تكن هذه المرة أكبر وأعظم. في غمرة السجال إزاء الوثبة التي حققتها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بات يُحكى في أروقة العلم والفكر والسياسة عن حقبة "ما بعد الإنسان" وحتى عن مخافة انقراضه، إن لم يُسارع الإنسان قبل فوات الأوان إلى قوننة وجود تلك الكيانات الحاسوبية ووتيرة تطويرها ومظاهر اشتباكها بالحياة، خصوصاً بعد أن أصبحت تجيد استخدام اللغة، "بيت الوجود"، كما وصفها الفيلسوف مارتن هايدغر، بمديات فائقة قد تُتيح لها السيطرة على الجنس البشري والتلاعب بمصيره، ما قد يُنهي سيادته على الأرض كما هي عليه منذ فجر الحضارة.
إلا أن ناقوس الخطر الذي ما انفك يقرعه الخبراء والمفكرون والمنظرون، لا يجدر به أن يصمّ أذن الرأي العام عن عظمة السبق العلمي الذي حققته البشرية من خلال الجيل الجديد من البرمجيات، التي باتت تُلقّن نفسها ذاتياً من خلال جمع البيانات ومعالجتها بسعة وسرعة وكفاءة خارقة غير مسبوقة. لئن أحسن البشر استخدامها وإدارة المرحلة الانتقالية السوسيو-اقتصادية الناجمة عن واقع انبثاقها، فقد تفتح الأبواب أمام آفاق واعدة في مجالات الطب والصناعة والمعرفة، عساها أن تهب الإنسان طوراً ماجداً زاهراً.
موسيقياً، وبعيداً عن ثنائية رهاب التقانة والتهليل لها، من شأن الذكاء الاصطناعي أن يُحدث تغييرات جسيمة في فضاء الفنون ومن ضمنه مجال الموسيقى. أولها مفهومي؛ إذ إنه بعد اليوم لن يُنظَر إلى المُنتج الفني، الموسيقي في السياق ههنا، كوسيط تعبير عن ذاتٍ أفضت بها أحوالها وخبراتها ورؤاها إلى إبداعه. وعليه، بالضرورة، فإن معناه والغاية منه سيتغيران. بانبثاقه عن آلة، من شأن انفصال وجود الفن عن إنسانٍ موجِدٍ له أن يُغيّر من طبيعة الصلة التي تربطه بالمتلقي. من الآن فصاعداً، سيتمكن مستهلكو الموسيقى بواسطة الذكاء الاصطناعي، من تفصيل موسيقى على هواهم وبما تقتضيه أمزجتهم وحالاتهم الجسمية والنفسية. إن أرادوها موسيقى مصاحبة لفعاليات الحياة اليومية، فستتولد وفقاً لنوع النشاط الذي يقومون به، إن كان مثلاً ممارسة الاسترخاء أم الرياضة.
على هذه الدرب الشيّقة، يبرز "ميوزيك إل إم" (MusicLM) الذي أطلقته شركة غوغل أول العام الحالي، كبرنامج كمبيوتر ينتمي إلى أسرة ما يُعرف بالنماذج العابرة (Cross Modal) مثل تلك الأكثر شيوعاً، التي تحوّل نصاً لغوياً إلى وسيط مرئي (Text to Image) على شكل صورة عالية الدقة؛ إذ يكفي أن يُلقّن الكمبيوتر وصفاً نصيّاً للموسيقى المرغوب في سماعها، لكي يشرع البرنامج استجابةً للوصف في توليد مادة موسيقية. بغية تهيئته بصدد إنجاز المهمة، جرى تلقين "ميوزيك إل إم" عديداً من المقطوعات الموسيقية، مصحوبةً بنصوص لغوية تتأول المناخات والانفعالات التي توحي بها، إلى أن بات بمقدوره الإتيان بموسيقى تحاكي أيّ وصف مكتوب.
بخلاف البرامج المصممة بهدف ترجمة النص إلى صورة، لا يزال المُخرَج الموسيقي لـ"ميوزيك إل إم" يعاني من ضآلة الجودة في نوعية الصوت وقصر مدته الزمنية، لأسباب تتعلق بالاستطاعة والحمولة الرقمية. إلا أن التطور التكنولوجي المضطرد والمتسارع، إن استمر على حاله، فسيُمكّن التطبيق من جَسر الهوة التقنية، وبالتالي، من إحداث انقلاب في السوق الفنية على الصعيدين الاقتصادي والموسيقي. أبرز المستفيدين من توليد الموسيقى حاسوبياً، هي الشركات التي تُوظّف الموسيقى كصوت مصاحب ضمن منتجاتها الترفيهية، كوسائل الإعلام والأفلام والمسلسلات والإعلانات وألعاب الفيديو. أبرز الخاسرين هم المؤلفون الموسيقيون ممن كان يتم توظيفهم من قبل الشركات لقاء تأليف وتوزيع الموسيقى المصاحبة.
أما المساعي من أجل برمجة الحاسوب بهدف توليد الموسيقى، فتعود إلى نهاية السبعينيات. من رواد هذا الحقل الفني العلمي المؤلف عازف الترومبون الأميركي جورج لويس (70 عاماً)، الذي يشغل اليوم منصب أستاذ الموسيقى والتأليف والتاريخ الموسيقي في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك الأميركية. في عام 2004، دعته قاعة كارنيغي المرموقة للحفلات الموسيقية إلى إحياء أمسية. فيها، طُلِب منه أن يرتجل على البيانو بمصاحبة فرقة تدعى "أوركسترا المؤلفين الأميركيين"، بيد أنه أحجم عن القيام بذلك بنفسه، ليخبر الجهة المُضيفة بأنه، على حد قوله، يعرف "شيئاً" بمقدوره أن يقوم بالارتجال عوضاً عنه.
ما قَصده لويس بالشيء كان "فوياجير" (Voyager)، وهو نظام كومبيوتر عكف على تطويره منذ بداية الثمانينيات. من خلال وصله بآلة كالبيانو مثلاً، يستطيع أن يرتجل ذاتياً مصاحباً عازفين آدميين. عبر مجسات، يقوم بالتقاط ما يتم إصداره من نغمات وتحليلها حاسوبياً، يولّد التطبيق بشكل مستقل استجابات موسيقية معقدة ومتوافقة، ينخرط من خلالها تفاعلياً ضمن مجموعة العازفين الموسيقيين. هكذا، وعلى المسرح أثناء الحفل، يظهر لوح آلة البيانو عند وصلها بـ"فوياغر" كما لو أن ثمة شبحاً يطرق مفاتيحه، محاطاً بمجموع العازفين، يتابعون الحاسوب أو يبتدعون لحناً فيتابعهم.
على خلاف "ميوزيك إل إم"، لا يتوجّه مسعى لويس من خلال نموذجه للذكاء الموسيقي الاصطناعي نحو الصناعة الموسيقية، وإنما نحو سبر الأغوار الفلسفية والمجتمعية لإمكانية تحرّر الفعل الموسيقي من شرط الفاعل البشري؛ إذ يرى بأن تولّد الموسيقى من الحاسوب يقترب بها من أن تغدو وحيّاً يأتي الإنسان من عوالم غيبية، ليُكسبها بالتالي بعداً روحانياً. من جهة أخرى، فإن دخول الحاسوب إلى عالم الارتجال الموسيقي من دون أنا موسيقي ترتجل، إنما يعزز، مُسقطاً، من قيمة الارتجال كسلوك جماعي لا فردي، ينمّي ثقافة الحوار بين الناس ويقوّي صلات التكافل والتضامن في المجتمع.
لا يمكن التنبؤ بالمسار الذي ستمضي به تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالبشرية. باستخلاص العبر من وَثْبات تكنولوجيّة نوعيّة سابقة، لا تكمن الأهمية بالماهية وحسب، وإنما بالكيفية. فالتقانة وسيلة، للبشر أن يختاروا الطريقة والغاية التي تُستخدم بها ولأجلها.
يبقى الأمر الذي يجدر أخذه بعين الاعتبار عند الحديث عن وثبة الذكاء الاصطناعي الأخيرة، هو التسارع غير المسبوق الذي يُميّزها، ما يُملي على الإنسان الإسراع بإحداث الأُطر والنواظم واحتواء المآلات والمتغيرات، فيبقى بذلك ذكاء الآلة في خدمة ذكاء الإنسان، لا العكس.